بين صحراء مترامية وسهول خصيبة، ينام السودان على ثروات هائلة قلّما اجتمعت في بلدٍ واحد: ذهب بأطنان لا تُحصى، ونفط مخزون في الأعماق، وصمغ (سوداني) خالص، لا ينازعه فيه أحد، وأراضٍ زراعية يمكن أن تطعم القارة كلها. لكنّ هذا الثراء تحوّل، عبر العقود، إلى لعنة تصبّ في جيوب قلةٍ وتُشعل حروبًا لا تنطفئ.
واليوم، ومع ميلاد حكومة انتقالية جديدة وسط رماد الحرب التي اندلعت في أبريل 2023، يُطرح سؤال مصيري: هل تكون هذه الحكومة قادرة على وقف نزيف الموارد، وبناء دولة تُحسن استثمار كنوزها؟ أم أن شبح “اقتصاد الحرب” سيظل يحول دون تحقيق أي تحول جذري؟
الذهب السوداني: بين الثروة والسيطرة
لا جدال في أن الذهب يمثل العمود الفقري للاقتصاد السوداني المنهك. وتؤكد الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية أن البلاد تزخر بأكثر من 30 موقعًا ذهبيًا، باحتياطات تتجاوز 1550 طناً. لكنّ المفارقة القاسية أن أكثر من 80% من هذا الإنتاج لا يصل إلى خزينة الدولة، بل يُهرَّب عبر حدود رخوة، وشبكات محلية وإقليمية تتحكم بها قوى داخلية وخارجية.
ووفق تقرير حديث لـمجموعة الأزمات الدولية (2023)، تتحكم مليشيا الدعم السريع في عدد من المناجم بمناطق دارفور وجنوب كردفان، وتُنقل كميات ضخمة من الذهب عبر طرق غير شرعية إلى دول الجوار، وصولاً إلى الإمارات، الوجهة الأولى للذهب السوداني المهرّب، بحسب بلات فورم لندن للتنمية (PLD، 2022).
التعدين التقليدي.. مورد خارج السيطرة
ما يُعرف بـ”التعدين التقليدي” أو الأهلي، يُشكّل مصدر عيشٍ لنحو مليوني سوداني، لكنه خارج سيطرة الدولة. فبحسب البنك الدولي (2021)، فإن 70% من الذهب المنتج سنويًا يأتي من هذا النمط، الذي يتم خارج الأطر القانونية، في مناطق نائية تعجّ بالفوضى، وتفتقر لأدنى مقوماتص السلامة والحوكمة.
ويقول الخبير الاقتصادي د. محمد الناير للجزيرة نت:
“التعدين التقليدي تحوّل من فرصة اقتصادية إلى معضلة أمنية وبيئية، فهو يمول النزاعات، ويُدار من قبل قوى لا تخضع للمساءلة.”
التهريب.. منظومة تحكمها شبكات مافيوية
الذهب ليس المورد الوحيد الذي يتسرب خارج البلاد. السودان يفقد سنويًا مليارات الدولارات عبر التهريب، الذي يشمل الصمغ العربي، الماشية، الوقود، وحتى العملات الصعبة. وتشير تقارير رسمية إلى أن هذا التهريب يتم عبر منظومات مترابطة، تمتد من موانئ الشرق إلى حدود دارفور، وتشارك فيها جهات داخل الدولة.
تقرير صادر عن لجنة تفكيك التمكين، قبل تجميد أعمالها، كشف عن اختراق مؤسسات رسمية من قبل شبكات التهريب، ما جعل الدولة عاجزة عن فرض سيادتها الاقتصادية. ويُجمع مراقبون على أن مواجهة هذا الواقع تتطلب إرادة سياسية لا تخشى كسر “بيوت المال” والنفوذ.
حكومة الفرصة الأخيرة؟
الحكومة الانتقالية الجديدة، المُعلنة وسط أنقاض الحرب، تقف أمام مفترق طرق حاسم. فهي لا تملك ترف الوقت، ولا رفاهية التجريب. فإما أن تبدأ بترتيب الأولويات من بوابة الموارد المنهوبة، أو تظل تدير “دولة ظل” تعيش على ما يتبقى من اقتصاد الحرب.
ورغم الوعود بإرساء الشفافية ومحاربة الفساد، فإن علامات الاستفهام تحيط بمدى القدرة على كبح مصالح المتنفذين داخل وخارج المؤسسات.
ويؤكد المحلل السياسي صلاح الدين أبو قرون للجزيرة نت:
“لن يتحقق الاستقرار دون بسط اليد على الثروات. يجب تأسيس شركة وطنية للذهب تخضع لمراقبة البرلمان، وعقد شراكات عادلة تُراعي مصلحة الشعب، لا النخب.”
خارطة طريق لإنقاذ الثروات
يرى خبراء التنمية أن الخروج من دوامة النهب والتهريب يتطلب خطة وطنية شاملة، تضع المورد البشري والمؤسسي في مركزها، وتتضمن:
- جرد شامل للموارد الطبيعية ومراجعة كافة عقود الامتياز الأجنبية.
- تقنين التعدين الأهلي ودمجه في المنظومة الرسمية عبر مراكز حكومية للشراء والتسويق.
- إصلاح الجمارك والمنافذ الحدودية باستخدام التكنولوجيا والرقابة المتبادلة.
- إنشاء نيابة ومحكمة خاصة بجرائم تهريب الموارد العامة.
- إعادة هيكلة وزارة المعادن لتكون خاضعة لرقابة مدنية فاعلة.
نهاية مفتوحة: من يملك الثروات، يملك القرار
إن السؤال الحقيقي ليس فقط كيف نوقف التهريب، بل: من يملك السلطة لوقفه؟ ومن يُجبر الحيتان الكبيرة على دفع الفاتورة؟ السودان لا يحتاج فقط إلى حكومة تُدير الأزمة، بل إلى مشروع وطني يعيد تعريف الدولة نفسها: من مزرعة تُنهب، إلى وطن يُبنى.
ما لم يُرسم هذا الطريق بإرادة ودماء جديدة، ستظل ثروات السودان تُسيل لعاب الطامعين، ويبقى شعبه رهينة وعود لا تصل.