لن أتحدث عن انتصار أو انهزام…
ولا عن انسحاب أو سيطرة،
ولا عن خطط تُملَى من بعيد،
ولا عن استراتيجيات تُكتب بالحبر وتُمحى بالدم.
لن أتحدث عن موتٍ بطيء،
ولا عن تصفيات تُنفذ خلف العيون،
ولا عن قرى كانت آمنة…
فاستُبيحت، ونُهبت، وقُتل فيها حتى الحنين.
لن أتحدث عن العطش،
ولا عن جوعٍ أصبح خبزاً يوميًّا،
ولا عن فقرٍ اتخذ من المواطن سكنًا دائمًا،
ولا عن فسادٍ تُرك دون رقيبٍ أو عتاب.
لن أتحدث عن شهاداتٍ أصبحت شبهة،
وامتحاناتٍ تُعقد في ظل الرعب،
أوراق امتحان ملغّمة بالأخطاء،
أحلام طلاب سُحقت، كأنها ليست إلا ثرابًا في مهب الإهمال.
لن أتحدث عن كهرباءٍ باتت رفاهية،
ولا عن مدينةٍ تنام في ظلمةٍ ويقظة نار،
ولا عن تصريحٍ يُقال في المساء…
فيقتل ألفًا في الصباح!
لن أتحدث عن جثثٍ تُدفن على عجل،
ولا عن قرى تُحاصر ثم تُنسى،
ولا عن مدنٍ يختفي فيها الصوت بعد الرصاص،
ولا عن وطنٍ تتعدد جراحه،
بين السردابة والنهود والصالحة… والأسماء أكثر من القبور.
لن أتحدث عن منصةٍ تعلو،
في حين يسقط الشعب كله تحتها،
ولا عن كلماتٍ تُقال في العلن،
فتشعل الخراب في الخفاء.
لن أتحدث عن فسادٍ تُدار به المؤسسات،
ولا عن غيابٍ يُدار به الضمير،
ولا عن عنصريةٍ تتقيأها الألسنة
في وطنٍ كُلُّهُ لونٌ واحد من الألم.
لن أتحدث عن من سرق المبادرات،
ولا عن من قايض الكرامة بالمناصب،
ولا عن من جعل الشرف مزادًا يُدفع فيه بالدولار.
لن أتحدث عن وعودٍ تُنسى فور انتهاء البث،
ولا عن مشاريع تحترق،
ولا عن صبرٍ أنهكته الخيبات،
ولا عن عزاءٍ يُقام كل يوم… دون جنازات.
ولن أتحدث عن دموع طفلةٍ في معسكرات النزوح،
تنتظر لقمة عيش… أو قطرة ماء،
تمسك ثوب أمها وتقول: “متى نرجع؟”…
ولا جواب إلا الصمت.
لن أتحدث عن معسكرات الفاشر،
حيث البرد والحرّ جحيم،
وحيث الموت له أكثر من وجه:
جوع، رصاص، نسيان… أو ظلم.
لن أتحدث عن أحزابٍ لا تعرف إلا الخراب،
ولا عن من باعوا الوطن وهم في الخارج…
يشعلون نار الحرب من أجل فتات.
لن أتحدث عن دولٍ تدّعي الجيرة،
لكنها تسقينا السم في صمت،
تحاربنا باسم “القلق”،
وتفرح بكل خيمة تُنصب… كأنها خنجر في خاصرة ترابنا.
لن أتحدث عن أحلام شعبٍ،
نامت على أرصفة الذل،
وماتت، دون أن تجد شاهداً على قبرها.
لن أتحدث عن مفقودين،
خرجوا ولم يعودوا،
ودُفنوا بلا وداع…
وبلا صرخة أخيرة.
لكنني أكتب، لأن الصمت جريمة.
أكتب، لأن كل من قرأ هذا، يعيش جزءًا منه.
أنا لا أكتب… بل وطني يصرخ على لساني،
وطني يصرخ بداخلي: اكتب عني،
الوطن في صدري لا يهدأ: اكتب عني،
يسكنني صراخًا لا يسكت: اكتب عني،
فلا مهرب من الوجع… إلا أن أكتب عني.
أكتب عن معسكرات تسكنها الأرواح لا الخيام،
عن مدارس بلا أقلام،
عن طلابٍ يمتحنون بالدم، لا بالحبر،
عن أمهات ينتظرن أبناءً قد لا يعودون،
عن أطفالٍ لا يعرفون إلا صوت المسيّرات،
ولا يلعبون إلا في ظل الموت.
أكتب عنك أيها الوطن، لأنك ما عدت تملك لسانًا،
فكل من تكلم باسمك… باعك.
وكل من أنصت لصوتك… حوصر.
والقليل، بعد أن وجدك، خسر كل شيء إلا كرامته.
فلتبقَ الكتابة جبهتنا الأخيرة،
وحبرنا مداد الصمود،
وصوتنا بندقية من صدق،
لا تقتل… بل توقظ.
اكتب عني،
عن كل مواطن بلا سقف،
عن كل حلم بلا نهاية،
عن كل قلبٍ ينتظر وطنًا يعود.
سلام وأمان… فالعدل، فالعدل ميزان