حملت الوسائط و بعض الصحف؛ حديثا للأمين العام للحركة الإسلامية و القيادي في المؤتمر الوطني على أحمد كرتي، و يقال أن الحديث كان عبارة عن لقاء تنويري محدود بعطبرة، كشف فيه عن الصراع الذي كان دائرا داخل النظام، و الرغبة التي كانت عند بعض القيادات لإسقاط عمر البشير، وإعادة هندسة المشهد السياسي.. و تضيف هذه الوسائط أن علي كرتي أقر بإنهم يريدون تصفية إرث حزب المؤتمر الوطني، مع محاولة إعادة إنتاجه عبر ما يسمى بـ”حركة المستقبل للإصلاح والتنمية”، وهي كيان جديد تبنته قيادات إخوانية بنفس النهج والأجندة، دون أي مراجعة حقيقية…
في مقال سابق كتبته بعنوان ” مريم الصادق و المؤتمر الوطني في الميزان” نشر في 14 إبريل 2025م، أكدت فيه؛ أن توسع قاعدة المؤتمر الوطني من تجمعات أهلية مثل الإدارات الأهلية، و الكيانات الصوفية، و غيرها تقف دائما مع الحزب الذي يملك زمام الدولة، هؤلاء كانوا أعضاء في الاتحاد الاشتراكي.. و عندما سقط الاتحاد الاشتراكي، رجعت العناصر إلي انتماءاتها القديمة لدائرة “الأحزاب التقليدية” لكي تؤمن لها متطلباتها في الدولة.. فالمؤتمر الوطني كان حزب دولة، يتغذى من ثدييها، و تأتي إليه القيادات الأهلية التي لها مصالح عند الدولة، و أيضا تجذب أصحاب المصالح الخاصة في الأحزاب الأخرى، و الباحثين عن الوظائف و الحقائب الدستورية و تمويل الدولة لمشروعاتهم الاستثمارية.. فسقوط النظام السياسي تلقائيا سوف تنفض عنه هذه المجموعات، و تبدأ البحث عن القيادات الجديدة في النظام الجديد.. و حتى الميليشيا كانت تستقطب آهل المصالح الذين يحلقون في سمائها..
أن حديث علي كرتي يؤكد أنه مدرك لذلك الدور، و مستوعب أن عودة الحزب للعمل خارج السلطة سوف ينقص كثيرا من رصيده الجماهيري، و سوف يرجع حجمه الطبيعي أي عضوية الحركة الإسلامية التي أسسته، و أيضا سوف يكون خصما عليها، و تريد أن تتخلص من كل الحمولات السالبة التي علقت بحزب الدولة، و أيضا تسقط هذا الإرث، لكي تبدأ بمؤسسة جديدة.. لكن المؤسسة الجديدة نفسها لابد أن تتخلص من القيادات التي علقت اسمائها بحزب الدولة.. في فترة الدكتور حسن الترابي كانت ” الحركة الإسلامية” تغير أسمها من حلقة ضيقة إلي تحالفات واسعة بهدف توسيع دائرة الاستقطاب الجماهيري، و بدأت بالأخوان و جبهة الميثاق و الجبهة الإسلامية للكسب الشعبي.. لكن هذه المرة تبدأ عملية التراجع من تحالف كبير جدا لحزب الدولة، إلي تحالف يرجع إلي القاعدة الأساسية للحركة الإسلامية…
أن حديث على كرتي بأن هناك قيادات في حزب المؤتمر الوطني كانت تتأمر لإسقاط البشير، معلوم أي حزب سياسي عندما يضيق الحريات، و يفرض حصار على نشاط القوى الأخرى، سوف يتحول الصراع داخل الحزب نفسه، لآن الصراع في هذه الحالة تحكمه تطلعات العضوية و بحث كل جانب عن مصالحه، و تبدأ تتشكل مراكز القوى و يصبح الصراع على المكشوف هو الذي أطاح بالدكتور الترابي عراب التنظيم، و نفس الشيء حصل في انقلاب مايو 1969م، عندما أصبح الحزب الشيوعي يسيطر على السلطة الجديدة، و منع القوى الأخرى من ممارسة نشاطها، بدأت تظهر مراكز القوى داخل سلطة الانقلاب، و التي أدت في النهاية إلي انقلاب جديد عام 1971م، و بسببه تم إعدام السكرتير العام و عددا من قيادات الحزب الشيوعي، لآن الصراع يتحول من صراع مع قوى سياسية أخرى متطلعة للسلطة، ألي صراع مصالح داخل السلطة نفسها.. الآن على كرتي يريد العودة ألي منصة التأسيس، و هي الحركة الإسلامية، و معنى ذلك إبعاد المؤلفة قلوبهم من عملية التأسيس، و هذا منطق الأشياء، بعض الوسائط سمته تأمر جديد للحركة الإسلامية.. لا أدري ما هو المقصود بالتأمر..! و لكن الفكرة نفسها هي تنقد نموذج فكرة الحزب الواحد القائد..
الملاحظ: أن بعض قيادات القوى السياسية الأخرى، مشغولة بالنشاط الذي تقوم به قيادات الإسلاميين أكثر من الانشغال بمؤسساتها الحزبية، و التي تعاني من الضعف و الهزيان.. عندما تصبح أجندة القيادات السياسية محصورة فقط في متابعة الإسلاميين، يدل على أنها عاجزة على الفعل السياسي، و عاجز أن تقدم تصوراتها إذا كانت لتطوير و إصلاح مؤسساتها، أو حتى لحل تعقيدات المسرح السياسي في البلاد، الذي سمح أن تتدخل فيه دول و تنظيمات خارجية و أجهزة مخابرات أجنبية و غيرها، و هي التي تقدم المبادرات و تحدد أجندة الصراع..
أن حزب المؤتمر الوطني رغم الصراع الدائر بين قيادته لكنه فقد بريقه و سوف ينذوي تماما لأنه فقد ركائزه الأساسية التي كان يتحرك بها و هي مؤسسات الدولة.. و بالتالي فكرة الانتقال إلي مسميات جديدة تؤكد أن على كرتي مستوعب أن المرحلة القادمة سوف يتحرك فقط بإمكانية الحركة الإسلامية، هل هي اوسع الآن من دائرة المؤتمر الوطني الذي فقد مشروعيته.. هذا التفكير ليس من باب التأمر كما يعتقد البعض و لكن الرجوع لحقائق الواقع.. فالتنظيم الجديد سوف يؤسس على إمكانيات عضويته و ليس إمكانية الدولة و أدواتها، و انه سوف لا يملك أجهزة و مؤسسات لقمع الآخرين، بل سوف يتعامل معهم من خلال ما هو متاح في الصراع السياسي، و مقيد بالدستور و القوانين و اللوائح.. و إذا كان على كرتي و الذين يؤيدونه مقبلين على إعادة النظر في الإرث السياسي، و التخلص من حمولاته السالبة، و بناء مؤسسات جديدة، بالضرورة تتطلب مراجعات فكرية، هل قيادات الحركة الإسلامية تملك الإمكانية في نقد التجربة السابقة لتجاوز سلبياتها مستقبلا، رغم أن الدكتور الترابي نقدها من قبل .. أم أن التصريحات هي نفسها لا تبتعد عن المناورة و التكتيك.. هذا الذي سوف تكشفه الأيام المقبلة.. لكن إذا أصبحت أجندة القوي السياسية الأخرى متمحورة فقط على متابعة الإسلاميين، تكون قياداتها لم تستفيد من التجارب السابقة، و عاجزة تماما عن إصلاح و تحديث مؤسساتها، و بالتالي لا تستطيع أن تحدث تغييرا جوهريا و إيجابيا في المسرح السياسي السوداني.. نسأل الله حسن البصيرة..