الإثنين, مارس 10, 2025
الرئيسيةمقالاتوجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي. ...

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي. أقنعة الموت: دراما التحولات الاجتماعية والسياسية.

تُعد الدراما من أكثر الوسائط الفنية قدرةً على تحليل وتحويل الواقع إلى مادة بصرية قادرة على إثارة الوعي وإنتاج المعنى بصورة مؤثرة ، يعتبر مسلسل أقنعة الموت للمخرج أبوبكر الشيخ الذي يعرض هذه الأيام في قناة الزرقاء الفضائية تجربة درامية سودانية مميزة ذات طابع توثيقي سياسي، حيث يسعى إلى نقل الواقع السوداني خلال الحرب الحالية بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع. المسلسل يطرح نفسه كعمل فني لكن بأبعاوالسياسواضحة، مما يجعله مادة خصبة للتحليل والنقد من زوايا متعددة، أبرزها توظيف الدراما كأداة مقاومة سياسية، ومدى تحقيقه للتوازن في السرد، وتأثيره على الوعي العام.

المسلسل يبدو أقرب إلى كونه شهادة درامية على مجريات الأحداث منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل، حيث يعتمد على التصوير المباشر للأماكن التي شهدت معارك وانتهاكات، مما يعزز مصداقيته كعمل توثيقي. اختيار مواقع التصوير مثل أحياء أم درمان التي تأثرت بالحرب، يكشف عن توظيف الدراما كسلاح مقاومة فني ضد المليشيات ، ويعيد للأذهان نماذج عالمية في استخدام الدراما كأدوات سياسية، مثل الأفلام التي وثقت الحروب الأهلية في يوغسلافيا وسوريا و رواندا.

يُظهر المسلسل كيف فرضت الحرب واقعًا قاسيًا على المجتمع السوداني، حيث تبدلت العلاقات الاجتماعية والعائلية تحت وطأة العنف والموت. فالخراب لا يقتصر على البيوت والمرافق العامة، بل يمتد إلى تفكك الروابط بين الناس. ومع ذلك لا يسعى المسلسل لمجرد إظهار هذه التحولات ، بل يُقدمها كجزء من حالة مستمرة من الكفاح البشري ضد الفوضى. ففي مشاهد متقنة يعكس المسلسل الآثار النفسية العميقة التي تركتها الحرب على المدنيين الذين أصبحوا ضحايا القتل والتهجير القسري، لكنه في نفس الوقت يبرز ملامح التضامن بين الأفراد في ظل الكارثة.

المسلسل لا يكتفي بنقل الأحداث، بل يستخدم لغة سياسية مباشرة في نقد ما يسميه “عملاء السفارات”، وهو مصطلح شاع استخدامه في السودان لوصف بعض النخب التي ترتبط بمصالح خارجية. هذا الطرح يعزز من الطابع التعبوي للعمل، ويضعه في خانة الدراما الموجهة سياسيًا، وهو أمر لا يقلل من قيمته، لكنه يجعله مفتوحًا للنقد من زاوية التوظيف السياسي للدراما.

في جانب اللغة البصرية وأسلوبية الإخراج يوظف المخرج أبوبكر الشيخ مجموعة من الأساليب الإخراجية التي تعزز من التأثير العاطفي والمعرفي للمسلسل. إذ يعتمد على “التصوير اليدوي” (Handheld Camera) في بعض المشاهد لنقل الشعور بالتوتر وعدم الاستقرار، ويستخدم الإضاءة الطبيعية لتعزيز الواقعية، مما يجعل المشاهد أكثر انغماسًا في التجربة الدرامية. إضافةً إلى ذلك فإن توظيف الصمت كمكون دلالي في لحظات معينة، يعكس حجم المأساة، ويتيح للمشاهد استيعاب عمق الأزمة دون الحاجة إلى المبالغة في الحوار أو الموسيقى المصاحبة.

يعتمد المسلسل على بنية سردية تستلهم تقنية “الواقعية التسجيلية” (Documentary Realism)، حيث تصبح المواقع الطبيعية بديلاً عن الديكورات المصطنعة، ما يعزز من موثوقية المشاهد ويزيد من قوة الخطاب الدرامي. فمشاهد البيوت المهجورة، الجدران المثقوبة بالرصاص، والمساجد التي أُفرغت من مرتاديها، ليست مجرد خلفيات سينوغرافية، بل هي دلالات بصرية تحيل إلى سياقات الحرب والنزوح، وتجعل من المشاهد ذاته “شاهدًا متلقيًا” على الفظائع التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع.

قام المخرج أبوبكر الشيخ باختيار مجموعة من أفضل نجوم الدراما السودانية لتجسيد شخصيات المسلسل، وكانت هذه الاختيارات محورية في نجاح العمل وإيصال رسالته. من أبرز الممثلين في المسلسل الفنان صالح عبد القادر، الذي أبدع في تقديم دور الشخصية التي تعكس ملامح المعاناة الإنسانية. فبأسلوبه الفطري وقدرته الفائقة على تجسيد الألم والتوتر الداخلي، جعل الجمهور يتفاعل بشكل عميق مع الأحداث. إلى جانبه تميز أحمد البكري الذي قدم أداءً قوياً في تجسيد شخصية تقاوم الظلم وتبحث عن الأمل في وسط الفوضى، مما أضاف بُعدًا إنسانيًا للمسلسل.

كما كانت ناهد حسن، بكلماتها المعبرة وتفاعلها الجسدي مع الأحداث، أحد أبرز الأسماء التي برعت في تجسيد شخصية امرأة تجاهد في ظروف الحرب القاسية. كامل الرحيمة وعزة محمود وإلهام مصطفى إضافة إلى بابكر سلك وقسم الإله حمدنا الله، جميعهم قدموا أدوارًا رائعة تتناغم مع جو العمل الدرامي. هذه المجموعة من الممثلين نجحت في خلق شخصيات حية وواقعية تتنقل بين آلام الحرب وآمال الحياة، مما عزز من مصداقية الرسالة الفنية للمسلسل وعمق تأثيره على المتلقي.

أسلوب المخرج أبوبكر الشيخ في “أقنعة الموت” يعد من العوامل الأساسية التي ساهمت في نجاح العمل. الشيخ نجح في استخدام تقنيات التصوير المبتكرة والاعتماد على الإضاءة، مما منح المسلسل مظهرًا مؤثرًا يعكس الحالة النفسية لشخصياته. كما تميز بقدرته الفائقة على توظيف الصمت في بعض المشاهد، ما جعل المشاهد أكثر تأثيرًا وأعمق في إيصال المشاعر. الشيخ بتوجيهه البارع للممثلين واختياره الدقيق للمواقع التي تم فيها التصوير، نجح في تقديم تجربة درامية تلامس الواقع السوداني وتعرض معاناة الشعب في ظل الحرب . كما أن عمله يعكس قدرًا من الجرأة، حيث لم يخف من عرض الحقائق القاسية المتعلقة بالظروف المعيشية والنزوح، مما منح المسلسل طابعًا نقديًا سياسيًا قوياً.

رغم النجاح الفني للعمل، فإن مسلسل أقنعة الموت يتعرض لانتقادات من بعض النقاد الذين يرون أن العرض المكثف للمشاهد العنيفة قد يشكل عبئًا نفسيًا على المشاهدين، خاصة في ظل الأوضاع الحالية. فبينما يرى البعض أن هذه المشاهد تساهم في توصيل الواقع القاسي، يشير آخرون إلى ضرورة توخي الحذر في عرض مثل هذه المشاهد، لتفادي تأثيراتها السلبية على الجمهور.

أقنعة الموت هو عمل درامي نراه يعكس وجه الحقيقة يتجاوز سرد الأحداث ، ليُصبح وثيقة بصرية تُسجل جزءً من تاريخ السودان المأساوي. مع تطور الدراما السودانية، سيكون لها دور حاسم في المساهمة في إعادة بناء الهوية الاجتماعية، إذ تمكننا من مواجهة الماضي بعين نقدية، ورؤية مستقبلية مليئة بالأمل، لإعادة ترميم النسيج الاجتماعي . لا شك أن مسلسل “أقنعة الموت” يمثل علامة فارقة في المشهد الدرامي السوداني، حيث استطاع أن يجمع بين البعد الجمالي والطرح النقدي العميق. إنه عمل يتجاوز حدود السرد التقليدي، ليصبح شهادة بصرية على جرائم الحرب، ونداءً دراميًا لاستعادة قيمة الأمن والسلام .
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 10 مارس 2025 م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات