رغم أن حكومة د. كامل إدريس لم تُعلن رسميًا حتى لحظة كتابة هذا المقال، إلا أن الأحاديث المتواترة حولها تجاوزت مرحلة التخمين إلى مرحلة الجزم في بعضها، وبات الرجل أمراً واقعا في نظر الرأي العام، بانتظار إعلان تشكيلته المرتقبة، بعد أن حسم فيها تعيين حقيبتي الدفاع والداخلية ، وقد وُضعت على هذه الحكومة المنتظرة آمال عريضة من جهة، وشكوك كبيرة من جهة أخرى.
لكن السؤال الأهم ليس: هل سيُشكّل الحكومة؟
بل: هل سينجح؟ إن شكّلها في العبور عبر تضاريس الواقع المعقد، وسط حرب لا تزال نيرانها مشتعلة، وملفات سياسية مؤجلة، وشعب يتطلع إلى قيادة حقيقية ومستقلة.
إن أول تحد جوهري يواجه حكومة د. كامل إدريس يتمثل في شرعية استقلالها الفعلية، لا الاسمية. فالسودانيون، وخاصة ضحايا الحرب، لن يكتفوا بشعار “حكومة تكنوقراط” ما لم يروا تمايزاً واضحا يبعد القوى التي ثبت تورط بعض عناصرها في دعم مليشيا الدعم السريع سياسيا أو إعلاميا أو حتى ميدانيا.
ما يُعرف بقوى الثورة أو لجان المقاومة لم تكن ولن تكون كيانات صالحة، بعد أن تداخل بعضها فعليا مع مشاريع العنف السياسي، أو عمل كغطاء حزبي للتمكين الجديد، بل كانوا شريكًا مباشرًا للمليشيا فيما وقع على الشعب السوداني من مآسٍ وجرائم ، وعليه فإن نجاح حكومة إدريس يتوقف على مدى قدرتها على بناء قاعدة دعم جديدة ونظيفة، غير متورطة، وغير مرتبطة بالمحاصصة القديمة، أو المشاريع الانتهازية المتخفية تحت لافتات ثورية.
في الأيام الماضية، تداولت مصادر صحفية متعددة تسريبات نُسبت إلى د. كامل إدريس أو إلى مقربين منه، تفيد بأنه بدأ فعليا في تسمية بعض الشخصيات التي ينوي إدخالها ضمن تشكيلته الحكومية ، غير أن هذه الأسماء أثارت جدلًا مبكرا، خاصة حين تكررت أسماء محسوبة بشكل أو بآخر على تحالفات حزبية معروفة بولائها للمليشيا، أو على خلفيات لا تنسجم تماما مع خطاب الاستقلال والنزاهة السياسية الذي روّج له الرجل ،وهذا يُدخل الحكومة المنتظرة في اختبار مبكر قبل ولادتها .
فهل ستكون التوليفة وفية لخطاب الاستقلال؟ أم خاضعة لتوازنات إرضائية تهدف فقط لامتصاص التوتر وشراء الوقت؟
إن التسريبات لم تضعف فقط عنصر المفاجأة، بل سلّحت خصوم المشروع بأدوات مبكرة للتشكيك، وأثارت تساؤلات حول ما إذا كانت الحكومة القادمة ستعيد إنتاج ذات المعادلة القديمة، لكن بأسماء مختلفة.
أما الحركات المسلحة الموقّعة على اتفاق جوبا، فتدخل إلى معادلة حكومة إدريس بوضع معقّد، فمن جهة، تعتبر نفسها شريكًا في الحكم بموجب الاتفاق، وليست طرفًا ثانويًا يُنتقى منه الأفراد بالقطعة.
ومن جهة أخرى، فإن حكومة تُوصَف بـ”المستقلة” لا يمكنها دمج هذه الحركات وفق نظام الحصص، دون أن تنسف مبدأ الاستقلالية من جذوره ، وهنا تظهر الإشكالية بوضوح هل ستقبل هذه الحركات بالتنازل عن حصصها التنفيذية لمصلحة حكومة كفاءات حقيقية؟
الجواب الأقرب للواقع : قطعًا لا، فغياب التوافق الصادق بين منطق الكفاءة ومنطق الحصة، يجعل من إشراك الحركات تحديًا مزدوجا فهي شريكة بحكم الاتفاق، لكنها قد تكون عائقًا بحكم السقف الذي يفرضه الاتفاق ذاته وعليه فإن أي توافق حقيقي لا بد أن يبقي على وجود الحركات ضمن معادلة الدولة الجديدة، ولكن دون أن يُفسد استقلالية الحكومة أو يُخضعها للتوازنات السياسية.
خلاصة القول حكومة كامل إدريس على حافة الأمل وحدّ السكاكين فحكومته إن خرجت للنور، ستكون أول محاولة مدنية للخروج من نفق الحرب عبر شخصية غير متورطة في الاستقطاب، لكنها لن تسير في طريق مفروش بالتفاؤل.
نجاحها سيتوقف على مدى قدرتها على تجاوز ضغط أصحاب المصلحة و الأحزاب والحركات مجتمعة ، مدى تماسك تشكيلتها بعيدًا عن إرضاءات اللحظة ، مدى مصادقتها للناس لا للنخب، بالقرارات لا بالشعارات ، وإلا فإنها ستكون مجرد حكومة لأجل تسمية حكومة؛ قد تُجهض بولادة توافق هش، ووجوه مشروخة، وواقع أقسى من الخيال …لنا عودة.