في مناخ سياسي واجتماعي يخيّمه القلق وتثقله تبعات الحرب، يتصاعد الجدل حول حكومة الدكتور كامل إدريس المرتقبة، باعتبارها تجسيدًا مصغرًا للصراع الأكبر بين تطلعات الحكم الرشيد وميراث المحاصصة والتمكين. وبينما يسعى الرجل، في خطابه الرسمي على الأقل، إلى ترسيخ نهج مغاير قائم على الكفاءة والمهنية والابتعاد عن المحاصصات، تتلبد الساحة السياسية والإعلامية بسحب من الشكوك والإشاعات التي تعكّر صفو هذا الطموح، والتي ظل مكتب رئيس الوزراء يتصدى لها بالنفي والتوضيح.
البيان الصادر بالأمس عن مكتب رئيس الوزراء، الذي نفى بشكل قاطع ما تم تداوله عبر بعض المنصات الإعلامية بشأن تقديم إلكتروني مدفوع للمناصب الوزارية، يعكس قلقًا مشروعاً من محاولات ابتزاز الرأي العام أو تشويه صورة الحكومة قبل ولادتها. لكن البيان، ورغم وضوحه، لم يُغلق الباب أمام التساؤل الأوسع: ما الذي يمنع – من حيث المبدأ – اعتماد آلية إلكترونية تنافسية وشفافة لاختيار الوزراء، تخضع لرقابة مهنية مستقلة ؟ وإن لم تكن هذه الآلية موجودة بعد، فلماذا لا تُوجَد ؟
الحديث المتداول عن لجنة أكاديمية من جامعة الخرطوم يُزمع أن توكل إليها مهمة فرز طلبات التقديم للحقائب الوزارية – إن ثبتت صحته – يُعد تحولًا نوعيًا في طريقة تفكير الدولة الانتقالية، ويبدو منسجمًا، على الأقل ظاهريًا، مع خطاب الدكتور كامل إدريس حول الكفاءة والشفافية والحكم الرشيد. إلا أن نفي الحكومة لهذه الخطوة يبعث برسالة مزدوجة: فهي من جهة تنفي وجود مسار إلكتروني، ومن جهة تعد بتشكيل وزاري خالٍ من المحاصصات، قائم على الكفاءة. وبين هذين الموقفين، يبقى الرأي العام معلقًا بين التصديق والتوجس، لا سيما في ظل تاريخ طويل من الوعود التي تحولت إلى صفقات.
الحقيقة الأوضح في هذا المشهد أن مراكز القوى التقليدية، سواء كانت سياسية أم عسكرية، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام مشروع يسعى إلى إعادة توزيع النفوذ على أساس الكفاءة لا الولاء. وقد بدأت ملامح هذه المواجهة تتبدى من خلال الاصطفافات والبيانات المضادة التي أصدرتها مجموعات مسلحة، مثل “غاضبون”، و”درع السودان”، و”لواء البراء بن مالك”، وغيرها من التشكيلات التي شاركت في معارك حاسمة ضد مليشيا الدعم السريع. هذه الكيانات تعتبر أن مشاركتها في الحرب تمنحها شرعية سياسية، وترى في إقصائها نوعًا من الإنكار أو حتى الخيانة.
أما إذا رضخت حكومة الدكتور كامل إدريس لهذا النوع من الابتزاز الناعم ، أو اضطرت إلى منح “مقاعد الثمن” لأطراف مسلحة بناءً على أدوارها القتالية، فإنها بذلك تعيد إنتاج نفس المعادلات التي أفرزت اتفاق جوبا وما أعقبه من إخفاقات. وسيغدو من الصعب حينها الحديث عن كفاءة أو عدالة أو شفافية في توزيع السلطة.
الخطر الأكبر في هذا السياق يكمن في “الغرف السياسية الصغيرة” التي بدأت، وفق مصادر متعددة، تمارس ضغوطًا غير معلنة على مطبخ القرار، ساعية لتمرير أسماء أو تكتلات بعينها تحت شعارات براقة، لكنها تخفي في جوهرها مصالح حزبية أو جهوية أو حتى شخصية. هذا النوع من “السياسة المضمرة” يشكل التهديد الحقيقي لأي مشروع إصلاحي، مهما حسنت نواياه، لأنه يعيد إنتاج الفشل بصورة جديدة.
وفي هذا السياق، جاء الخطاب الذي وجهه رئيس الوزراء الانتقالي د. كامل إدريس إلى الشعب السوداني، كاشفًا عن ملامح “حكومة الأمل” المرتقبة، مشخّصًا أبرز أزمات السودان، وفي مقدمتها سوء إدارة الموارد، وضعف القيادة، وغياب العدالة في توزيع الثروة والسلطة، وانتشار الفساد. وأعلن إدريس أن الحكومة الجديدة ستتبنى نهجًا علميًا ومهنيًا قائمًا على الكفاءة والنزاهة، خاليًا من المحاصصة الحزبية، بهدف نقل السودان نحو الاستقرار والتنمية المستدامة، مؤكدًا أن هذه الحكومة تمثل صوت الأغلبية الصامتة، وتعتمد على الكفاءات الوطنية المستقلة لبناء دولة القانون والمؤسسات.
يبقى على رئيس الوزراء أن يثبت أن خطابه حول الشفافية ليس مجرد نفَسٍ أخلاقي في بلد هوت فيه السياسة إلى ما دون مستويات الأخلاق، وأنه قادر على مقاومة ضغوط مراكز القوى المتعددة، داخل الدولة أو في محيطها السياسي والعسكري. فالكفاءة لا تُقاس بالشعارات، بل بالمؤسسات التي تحميها، والإجراءات التي تضمنها، والإرادة السياسية التي ترفض المساومة عليها.
الفرصة التي أمام الدكتور كامل إدريس، كما نراها في و#جه_الحقيقة ، قد تكون فرصة نادرة لا تتكرر. وعليه أن يُغلق الباب أمام من يسعى لاستغلال أي تعثر أو إشاعة. فالحكم في هذا المشهد يشبه لعبة الشطرنج التي تعتمد على ذكاء ومهارة اللاعبين، ونحن على ثقة أن إدريس يمتلك القدرة على إدارة هذه اللعبة بحنكة. في بلد أثقلته الحرب والصراعات ، يترقب شعبه بقلوب معلقة بارقة أمل جديدة. وإذا أوفت حكومته بوعودها، فقد يشكل ذلك نقطة تحول حقيقية، تقطع مع إرث المحاصصات والهيمنة، وتضع أساسًا لبداية جديدة. أما إذا استسلمت لإعادة إنتاج الآليات القديمة بأسماء جديدة، فإن المشروع سينهار قبل أن يكتمل، وسيتحول الأمل إلى خيبة جديدة ضمن سلسلة الخيبات المسجلة في صفحات التاريخ المعاصر للسودان والسودانيين .
دمتم بخير وعافية.
الاحد 22.يونيو 2025م Shglawi55@gmail.com