في مرحلةٍ تتعافى فيها البلاد من آثار الحروب والانقسامات، وتتلمّس طريقها نحو الاستقرار، جاءت توجيهات رئيس مجلس الوزراء الدكتور كامل إدريس بإدراج دروس مستخلصة من الحرب التي شُنّت على السودان ضمن المقررات الدراسية، لتُعبّر عن تحول نوعي في فلسفة التعليم.
فلم يعد التعليم مجرد تراكم للمعلومات، بل أصبح أداة لبناء الضمير الوطني والوعي الجمعي، وسلاحًا لمجابهة الانقسامات التي لطالما مزّقت جسد الوطن.
التعليم لبناء وطن لا يعيد أخطاءه
التوجيه الذي صدر للمركز القومي للمناهج والبحث التربوي، لا يقتصر على إضافة محتوى سردي لتاريخ الحرب، بل يحمل في جوهره دعوةً لإعادة صياغة الهوية الوطنية عبر التربية. فالأطفال الذين ينشؤون في وطنٍ أنهكته النزاعات، لا بد أن يتلقوا معرفةً لا تُعيد إنتاج الكراهية، بل تعلّمهم كيف يقرأون ماضيهم ليستخلصوا منه العِبر لا الأحقاد.
التعليم في السودان، وفق هذا التوجه الجديد، لا بد أن يحمل في مضمونه قيماً كبرى: نبذ الجهوية، العنصرية، والمناطقية، وغرس معنى الوطن الجامع. فالسودان، بتنوعه العرقي والديني والثقافي، يحتاج إلى مناهج تبني لا تُفرّق، تُداوي لا تُجَرّح.
الدين.. رافعة أخلاقية للمصالحة لا أداة للصراع
ما يميز هذه المبادرة الحكومية هو دعوتها لعلماء المسلمين، وأئمة المساجد، ورجال الدين المسيحي إلى التبشير بمفهوم الوطن الواحد، وهي دعوة تعبّر عن وعيٍ عميق بدور الخطاب الديني في تشكيل المزاج الاجتماعي.
فالدين، حين يُفهم بفطرته الإنسانية وغاياته السامية، يصبح أقوى سند للوحدة، لا ساحةً للفرقة.
وقد حرّم الإسلام القتل تحريمًا قاطعًا، وجاء في كتاب الله تعالى:
﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾
سورة المائدة، الآية 32
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العصبية الجاهلية، فقال:
“دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ”
رواه الإمام البخاري، في صحيحه، كتاب الفتن، حديث رقم 3518.
والمسيحية كذلك قامت على مبادئ المحبة، والصفح، والتسامح.
فما الذي يمنع من أن تُضمّن المناهج دروسًا تعيد تقديم هذه القيم الدينية الجامعة لأبناء السودان جميعًا؟
إنّ التربية على الفهم السليم للدين يمكن أن تكون أساسًا صلبًا لبناء مجتمع لا يقتل بعضه بعضًا باسم الانتماء أو العقيدة أو الجهة.
السودان… وطنٌ يبحث عن ذاته في فصول المدارس
*لقد شهد السودان عبر تاريخه الحديث حروبًا أهلية بين الشمال والجنوب، ثم حروبًا بين المسلمين أنفسهم، وصراعات قبلية مزّقت النسيج المجتمعي في دارفور، النيل الأزرق، وجبال النوبة وغيرها.
ولذلك فإن تحديث المناهج التربوية ليعكس هذا الواقع المؤلم دون تزوير أو تبرير، ويقدّم دروسًا أخلاقية عميقة حول أسباب الدمار، سيكون بداية لشفاء جماعي حقيقي.
لا بد أن يربّى الطالب السوداني منذ نعومة أظفاره على أن الهوية الوطنية مقدّمة على القبيلة، وأن القانون فوق الولاء العشائري، وأن السلام أثمن من الثأر.
وأنّ دم الإنسان السوداني – أيًّا كان لونه أو دينه أو قبيلته – لا يجوز سفكه.
التربية الوطنية ليست مادة دراسية فقط
حين تُدرّس الوطنية كمادة جامدة، تصبح تكرارًا بلا أثر.
لكن حين تُنسج في مفاصل المناهج من التاريخ، إلى الأدب، إلى الدراسات الاجتماعية، حين يُعرض الأدب المقاوم للفتنة، وتُروى قصص الشجاعة في مواجهة الانقسام، وتُحلّل أحداث الحرب من منظور نقدي تربوي، عندها يصبح المنهج أداة لتحصين العقول، لا لتخديرها.
خاتمة: مستقبل السلام يبدأ من عقل الطفل
*في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به البلاد، فإن توجيهات رئيس مجلس الوزراء بتضمين دروس الحرب في المناهج، وفتح المجال للمؤسسات الدينية للمشاركة في التوعية الوطنية، ليست مجرد إصلاح تعليمي، بل هي بذور لوطن جديد.
وإن كنا جادين في بناء سودانٍ لا تُشعل فيه عود ثقاب فتنةٍ واحدة حريقًا في الوطن بأسره، فلا مناص من أن نبدأ من الفصول الدراسية، ومن عقول أطفال اليوم، الذين سيكونون صُنّاع السلام غدًا.