حين تختار الدولة أن تبدأ من المدرسة بدلاً عن الثكنة، ومن عقل الطفل بدلاً عن بندقية المقاتل، فهي بذلك لا تعالج الأعراض، بل تضع يدها على جذر المرض، وتشرع في ترميم الأساس.
هذا ما فعله الدكتور كامل إدريس، رئيس مجلس الوزراء، حين أصدر توجيهاته الجريئة والعميقة للمركز القومي للمناهج، بإدراج تجربة الحرب الأخيرة في السودان ضمن المقررات الدراسية، لا كتاريخ بارد، بل كمادة تربوية ذات هدف واضح: الاستشفاء الوطني، وتعميق الهوية السودانية الجامعة، ونبذ الجهوية والعنصرية التي لطالما كانت الوقود الخفي للصراعات الدامية في البلاد.
بناء الإنسان قبل البنيان
لم تكن كلمات الدكتور إدريس مجرد خطاب سياسي عابر، بل كانت وثيقة رؤية تستبطن المسار الصحيح لإعادة بناء السودان من الداخل:
“السودان يحتاج أكثر من السلاح والخطابات السياسية؛ بل إلى تربية جيل جديد على وعي وطني عميق.”
إنها فلسفة تقوم على أسبقية العقل على العضلة، والضمير على الدعاية، والتربية على التجييش.
بهذه الرؤية، يتحول ألم الحرب إلى وعيٍ جديد، ويتحول الدم المسكوب إلى درس في رفض التكرار، ويتحول الغضب المتناثر إلى طاقة إصلاح وبناء.
توزيع الأدوار: من المناهج إلى المنابر
ما يلفت النظر بعمق في هذا التوجه، هو أنه لم يتوقف عند حدود وزارة التربية، بل وزع الأدوار بشكل استراتيجي ومسؤول، حيث وجه نداءه إلى:
أئمة المساجد: ليكون منبر الجمعة صوتًا للوحدة والرحمة لا منصة لتأجيج الأحقاد.
رجال الدين المسيحي: لإعادة تشكيل الخطاب الروحي نحو التسامح والتعاضد الوطني.
العلماء والمفكرين: للمساهمة في بناء خطاب معرفي متزن.
حكماء المجتمع: لاستدعاء الحكمة السودانية العريقة في المصالحات وبناء الألفة.
إنها دعوة متكاملة لوضع الوطن في مسار الاستشفاء الجماعي، حيث لا يظل الإنسان مجرد متفرج أو ضحية، بل يتحول إلى جزء من الحل، من خلال موقعه الطبيعي في الأسرة، المدرسة، الكنيسة، المسجد، السوق، والقرية.
التجربة السودانية… تكتب نفسها في مناهجها
لأول مرة في تاريخ السودان، تتحول الحرب من حدث سياسي أو عسكري إلى أداة تربوية. ليس بهدف تمجيد العنف أو تزييف الواقع، بل بهدف مواجهته بجرأة وشفافية، وتحويله إلى دروس عملية في:
قيمة السلام.
بشاعة الانقسام.
خطورة خطاب الكراهية.
ضرورة المصالحة الوطنية الحقيقية.
هذه الخطوة تجعل من التعليم أداة مقاومةٍ ضد التفتت والانهيار، وتجعل من الطالب محور مشروع وطني، لا مجرد مستقبل سلبي للكتب.
الخاتمة: نحو أمة تتعلم من ألمها
إن قرار رئيس مجلس الوزراء بإدخال الحرب في المناهج لا يعني فقط إعادة كتابة المقررات، بل يعني إعادة صياغة الإنسان السوداني.
وهنا يُمكن القول: إننا أمام بداية حقيقية لنهضة ممكنة، طالما بدأنا من حيث يجب أن نبدأ:
من بناء الإنسان، قبل أن نطلب منه بناء الدولة.