الرفض الشعبي في كينيا لاستقبال قادة الميليشيا السودانية كان مدويًا، حيث تصاعد الغضب من الأحزاب المعارضة، ومنظمات المجتمع المدني، والناشطين الشباب الذين هاجموا حكومة وليام روتو بلا هوادة، واصفين إياه بأنه مجرد أداة بيد القوى التي تسعى لتمزيق السودان. جاء هذا السخط نتيجة استقبال نيروبي لتحالف القوى المدنية المتحدة “قمم”، الذي يعقد اجتماعاته منذ 17 فبراير الماضي لتأسيس حكومة موازية، تروج لنفسها على أنها حكومة وحدة وسلام، وستأسس لجيش واحد يشمل الجميع، وأنها لا تسعى لتقسيم السودان. بينما يرى الناشطون الكينيون أنها مجرد غطاء سياسي لشرعنة ميليشيا تلطخت أيديها بدماء الأبرياء في السودان.
لم يكتفِ المجتمع المدني الكيني بالرفض النظري، بل شنّ حملة واسعة، وظف فيها الإعلام والصحافة الاستقصائية، ونشر صورًا ومقاطع فيديو توثق المجازر التي ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع، لا سيما الجريمة البشعة بدفن أفراد من قبائل المساليت أحياءً في الجنينة غرب السودان، والمجازر الدموية في ود النورة، وهي الجرائم التي دفعت الولايات المتحدة وقوى دولية أخرى إلى تصنيف الميليشيا بأنها مرتكبة إبادة جماعية. صحيفة Standard الكينية، إحدى أكبر الصحف اليومية في البلاد، أطلقت وصفًا لا لبس فيه على قائد الميليشيا محمد حمدان دقلو، وسمّته “جزار السودان” (Butcher of Sudan). هذا الوصف انتشر كالنار في الهشيم، ليؤكد أن الرأي العام الكيني لا يرى في حميدتي سوى مجرم حرب، وأن محاولات إعادة تلميعه سياسيًا لن تمر دون معارضة.
الضربة الأخرى لحكومة روتو جاءت بعد تسريب تقارير عن أنها ستتلقى مساعدات مالية بقيمة 193 مليون دولار من الإمارات الأسبوع المقبل، وهو ما ربطه الناشطون على الفور بتقديم نيروبي خدمة سياسية مدفوعة لأبوظبي، التي تسعى لإبعاد ” الكيزان” للحكم، حتى وإن أدى إلى تفكيك السودان خشية عودة ما تسميه “الإسلاميين” إلى السلطة. هذه المعادلة دفعت ناشطين كينيين إلى اتخاذ خطوة غير مسبوقة، حيث رفعوا عريضة أمام المحكمة العليا الكينية تطالب بمنع ميليشيا الدعم السريع من توقيع أي اتفاق سياسي مع القوى السياسية السودانية أو الجماعات المسلحة على الأراضي الكينية.
إن هذا التحرك من المثقفين والصحفيين والمجتمع المدني الكيني المستقل يعد موقفًا مشرّفًا، ويؤكد أن الشعوب الأفريقية لا تقبل بأن تكون حكوماتها أدوات في مشاريع تفكيك الدول المجاورة. لذلك، لطالما نصحت زملائي السودانيين بعدم مهاجمة دول بأكملها لمجرد أن حكوماتها اتخذت مواقف معادية، فالتمييز بين الأنظمة والشعوب ضروري. وكما نكسب اليوم معركة الرواية والسردية ضد ميليشيا الدعم السريع، لا ينبغي أن نخسر دعم الشعوب الأفريقية الأخرى بخلط الحكومات القمعية بشعوبها المتعاطفة مع قضيتنا. كينيا ليست وليام روتو، بل هي شعب حيّ يرفض الظلم كما نرفضه نحن.
في النهاية، هذه الأحداث تثبت حقيقة لا جدال فيها: مهما حاولت بعض القوى السياسية السودانية تلميع صورة ميليشيا الدعم السريع، ومهما حاولت بعض العواصم الإقليمية إعادة تقديمها كطرف شرعي، فإن الشعوب، سواء في السودان أو في أفريقيا، لن ترى فيها إلا حفنة من الجزارين. الفطرة السليمة ترفض تأهيل الميليشيات، والعدالة لا يمكن أن تُبنى على تبييض الإبادة الجماعية.