يُحكى أن شيخًا في إحدى القرى السودانية دخل السوق ، فوجد لصاً يسرق حمار جاره على مرأى من الجميع ، فصاح فيه الناس يا الشيخ ، الحرامي سرق الحمار ، فردّ مبتسماً وهو يطالع المشهد كمن يشاهد مسرحية ، خلّوه يمكن بيجرب السرج ،
وسرق اللص الحمار ، ومضى الشيخ في طريقه ، لكنه ظل يرقص طربا كلما مرّ ببيت جاره قائلاً ، والله حرامي عملها فيك.
تلك الحكاية تلخّص الموقف الأمريكي من المليشيا ، التي أشعلت نار الحرب في السودان ، فواشنطن رغم كل ما رأته ، ورغم ما وثّقته عدسات العالم ، ما زالت تتعامل مع المأساة كمن يرى ولا يرى ، ويتحدث عن الفظائع وكأنها جريمة حدثت بالأمس ، بينما دماء الأبرياء لم تجف منذ الرصاصة الأولى.
تصريحات وزير الخارجية الأمريكي “روبيو” حول المجازر التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع ، جاءت وكأنها اكتشاف متأخر لحقيقة يعرفها الجميع ، فالمليشيا منذ أن أطلقت أول رصاصاتها ، وجّهت سلاحها إلى صدور المدنيين ، واحتلت منازلهم ومرافقهم ، وحوّلت المدارس والمستشفيات إلى ثكنات عسكرية ، وطردت الأسر من بيوتها تحت تهديد السلاح ، موثقة كل ذلك بعدسات هواتف مقاتليها الذين تباهوا بجرائمهم على الملأ.
الفاشر اليوم تتصدر الأخبار ، لكنها ليست المحطة الأولى ، ولن تكون الأخيرة في قطار الجرائم الذي مرّ ، عبر الخرطوم ونيالا والجنينة والجزيرة وزالنجي وبارا ، حيث خلّفت المليشيا وراءها أطلال مدن ، وجثامين بريئة وذاكرة سوداء لا تمحى.
ما يثير السخرية أن الولايات المتحدة ، التي تملك كل أدوات المراقبة والأقمار الصناعية وأجهزة الاستخبارات ، تتحدث اليوم بقلق عن ضرورة وقف تسليح المليشيا ، وكأنها لم تكن تعلم من أين تأتي الطائرات المسيّرة ومن ياتي بالمرتزقة الاجانب ، فالجميع يعلم ، وواشنطن قبل غيرها تعلم ، أن دولة الإمارات العربية المتحدة هي الداعم الأول لتلك المليشيا ، تمدها بالمال والسلاح وتفتح لها ممرات لوجستية عبر جيران السودان ، في أكبر عملية انتهاك سافر لسيادة دولة واستقرار شعبها.
واشنطن التي ترفع شعار حقوق الإنسان ، تغض الطرف عن الحقيقة حين يكون الجاني حليفاً استراتيجياً ، أو شريكاً اقتصادياً ، فالصمت الأمريكي أمام جرائم المليشيا ليس جهلاً ، بل عمى اختياري فرضته المصالح.
إن من يتابع الموقف الأمريكي لا يحتاج إلى كثير تحليل ليدرك أن بيانات التنديد المتأخرة ، ليست سوى تكسبٍ إعلاميٍ لا أكثر ، فلو كانت واشنطن صادقة في دعوتها لوقف تسليح المليشيا ، لوجّهت خطابها مباشرة إلى أبوظبي ، ولجمعت أدلتها وواجهت بها ابوظبي ، وقدّمتها إلى مجلس الأمن ، لكنها اكتفت بالكلمات الرنانة لتظهر في صورة الوسيط العادل ، بينما تترك الميدان غارقاً في الدم.
لن ينسى السودانيون مجازر المليشيا في الجنينة، حين سُحبت الجثث من الشوارع كأنها ظلال النهار ، ولا مشاهد القتل الجماعي في الخرطوم التي تحولت إلى مسرح للموت، ولا النساء والأطفال الذين أُحرقوا في قراهم في الجزيرة ، ولا مشاهد ذبح البشر في الفاشر وكأنهم قطيع أغنام ، كل تلك الفظائع موثقة ، شاهدة على أن الحرب التي شُنت على السودان لم تكن عشوائية ، بل كانت حرب إبادة برعاية صامتة من قوى كبرى.
قد تنجح الدبلوماسية الأمريكية في تجميل صورتها مؤقتاً ، لكنها لن تستطيع أن تمحو من الذاكرة صورة الدم الذي سال في الفاشر ، والخرطوم والجنينة وبارا والجزيرة وسنار. فالصمت على الجريمة جريمة ، ومن يرى الظلم ولا يرفع صوته ، يصبح شريكاً فيه ، مهما كان موقعه أو علمه أو نفوذه…لنا عودة.
