من المؤسف إن بلادنا اليوم تعاني من تحولات معقدة على المستويات الاقتصادية والأمنية والبيئية، ترافق معها تراجع واضح في فعالية إدارة عدد من مؤسسات الدولة.
أفرز ذلك واقع منهك انعكس في بعض جوانبه على السياسات والتشريعات المتعلقة بالتعدين العشوائي للذهب الذي يمثل في جانب مصدرًا سريعًا للدخل لملايين المواطنين المنهكين من ضغوط الحرب وتراجع الاقتصاد، في الوقت نفسه تحول إلى تهديد مباشر للبيئة والأمن المائي، خاصة على مشروعات حصاد المياه.
منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، اعتمد السودان على الذهب لسد فجوة الإيرادات. لكن غياب التشريعات الصارمة والرقابة الفعّالة فتح الباب أمام التعدين الأهلي الذي أصبح ينتج أكثر من 80% من الذهب عبر أكثر من مليوني عامل في ولايات نهر النيل والشمالية وكردفان ودارفور. ورغم مساهمته الجيدة في الدخل القومي، إلا أنه تحول إلى كارثة بيئية محتملة مع الاستخدام العشوائي لمواد سامة كالزئبق والسيانيد في الاستخلاص، من دون أي معايير بيئية أو هندسية تراعي سلامة البيئة وأمان المياه.
وذلك من خلال تمدده في مناطق تتقاطع مع مجاري السيول وأحواض المياه الجوفية، حيث توجد مشروعات حصاد المياه التي أُنشئت لتوفير مياه الشرب ودعم الزراعة والرعي واستقرار السكان. هذه المشروعات أصبحت مهددة بتسرب السموم الكيميائية، خصوصًا في مواسم الأمطار، حيث تتحول السيول إلى ناقل خطير للمخلفات السامة.
وقد وثّق الأهالي في مناطق مثل “خور كريبش” بولاية نهر النيل كيف تجرف السيول الكرتة الملوثة إلى داخل القرى والآبار، لتختلط بمياه الشرب وتصل إلى الماشية والأطفال، محدثة آثارًا صحية واجتماعية خطيرة.
ويزيد من خطورة الأمر أن بعض السكان – بدافع قلة البدائل والمعرفة البيئية – لجأوا لاستخدام مخلفات التعدين في بناء المتاريس لمواجهة السيول، وهو ما أدى إلى تسرب مباشر للمواد السامة إلى مجرى النيل. وقد كشفت فيضانات خريفي 2024 و2025 عن حجم هذا التلوث، وظهرت نتائجه في ارتفاع معدلات الأمراض وتدهور الأراضي الزراعية.
في ظل الحرب الممتدة منذ منتصف أبريل 2023، غابت الدولة عن الإشراف والرقابة اللصيقة ، بينما تصرفت بعض شركات التعدين وكأنها فوق القانون، مدفوعة بتحالفات مع شبكات نافذة داخل أجهزة الدولة. حتى المبادرات السابقة، مثل المؤتمر القومي لبدائل الزئبق عام 2021، لم تحقق نتائج ملموسة لغياب المحاسبة وتنازع الإرادة السياسية.
تُعد مشروعات حصاد المياه ركيزة استراتيجية للاستقرار والتنمية في السودان، لاسيما في المناطق الريفية . إلا أن تركها عرضة للتلوث والإهمال يمثل تخليًا عن أحد أدوار الدولة الأساسية في حماية الموارد الحيوية.
إن تهديد الأمن المائي، في سياق شح متزايد وتغيرات مناخية حادة، هو تهديد مباشر للأمن السياسي والاجتماعي. ولا يمكن التعامل مع خطر التعدين العشوائي بوصفه أزمة بيئية فقط، بل كمعركة تتعلق بالسيادة والمشروعية. فالدولة التي تعجز عن صون مياه شعبها، تُقوّض أسس بقائها.
إن مواجهة هذه الكارثة تتطلب تبني رؤية وطنية شاملة لإدارة الموارد المائية وحمايتها من التلوث ، تقوم على إعداد استراتيجية متكاملة لحماية مشروعات الحصاد والمياه الجوفية، وتحديث الخرائط الكنتورية للسيول وربطها بمناطق التعدين، وفرض نطاقات حظر صارمة لأي نشاط ملوث قرب الأحواض المائية، وإنشاء شبكة وطنية لرصد نوعية المياه وتغيراتها،
مع تعزيز دور المجتمعات المحلية والحكومات في تشغيل المشروعات وصيانتها عبر التدريب والتثقيف البيئي. كما يمكن تأسيس صندوق وطني لمشروعات المياه الريفية، يستفيد من التمويل المحلي والدولي، ويُدار بشفافية لدعم البنية التحتية وإدخال واستدامة تقنيات حديثة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لضخ المياه في المناطق النائية.
بحسب #وجه_الحقيقة إن مشروعات حصاد المياه ليست مجرد مشاريع تنموية، بل ركيزة استراتيجية للاستقرار والتنمية الاجتماعية. وتركها عرضة للتلوث والفوضى يمثل تراجعًا عن أحد أهم أدوار الدولة التي اعلنتها ضمن اهداف الالفية التنموية للعام 2030. فتهديد الأمن المائي، في ظل الشح المتزايد والتغيرات المناخية الحادة، ليس مجرد أزمة بيئية، بل معركة وجود تتعلق بشرعية الدولة وبقائها. فالمياه هي خط الدفاع الأول عن حياة الشعب السوداني، ومن يفقد السيطرة عليها يفقد مقومات البقاء.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 17 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com