.. :
الحصار كوسيلة من وسائل القتال له أثر إنساني واجتماعي واقتصادي بالغ، خصوصًا حين يستهدف أو يؤثر على مدن مأهولة بالسكان المدنيين. وينظم القانون الدولي الإنساني (القواعد المتصلة بنزاعات مسلحة) مثل سلوك الأطراف المتحاربة بهدف حماية المدنيين وتخفيف المعاناة الإنسانية. سنتناول في هذا المقال الإطار القانوني العام المتعلق بالحصار، والقواعد المترتبة عليه، وآثاره على المدنيين، ثم نطبّق الإطار والتحليل على نموذجَ مدينتي الفاشر وكادوقلي وفقًا للمعلومات المتاحة من تقارير حقوقية وإنسانية.
الإطار القانوني العام
المصادر الأساسية: اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، القواعد العرفية الدولية كما رصدتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، وبعض بنود بروتوكولاتها الإضافية لعام 1977 (حيثما تنطبق)، وكذلك مبادئ القانون الإنساني الإجرائي والقرارات الدولية ذات الصلة المبادئ الأساسية الملزمة لكل أطراف النزاع:
مبدأ التمييز (تمييز المقاتلين/تمييز الأهداف العسكرية عن المدنيين/والأعيان المدنية)،
مبدأ النسبة والتناسب (تجنب أضرار مدنية مفرطة بالنسبة للفائدة العسكرية المتوقعة)،
مبدأ اتخاذ الاحتياطات (اتخاذ كل الوسائل الممكنة لتقليل الضرر المدني)، وحظر أساليب وأدوات الحرب التي تسبب معاناة غير مبررة للمدنيين العزل.
قواعد خاصة متصلة بالحصار: يُحظر استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب، ويُحظر تعمد منع وصول الغذاء والدواء والمياه إلى السكان المدنيين بهدف إضعافهم. كما يُطلب من أطراف النزاع السماح بتيسير وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين المتأثرين بالحرب، والتعاون مع المنظمات الإنسانية لتقديم المساعدة.
هنالك قيود قانونية للحصار هي عدم جواز التجويع: لا يجوز تنفيذ حصار يهدف إلى التجويع أو تُتوقع منه نتائج من شأنها تجويع السكان المدنيين. إحداث نقص متعمد في المواد الضرورية للبقاء يعَدّ محظورًا. حماية الأعيان المدنية والبنى التحتية الحيوية: يجب تجنب استهداف أو تدمير مصادر مياه الشرب والمستشفيات ومحطات الكهرباء والبنية التحتية الطبية والغذائية ما لم تكن أهدافًا عسكرية مشروعة، وبحيث لا يترتب على هجماتها أضرارًا مدنية مفرطة. وصول المساعدات الإنسانية: على أطراف القتال تسهيل وتمكين إيصال الإغاثة إلى السكان المدنيين المنكوبين، ويجب على المانحين والمنظمات الإنسانية التنسيق مع كل الأطراف لضمان سلامة وحيادية التوزيع.
الإجلاء الآمن: ينبغي تسهيل مغادرة المدنيين الراغبين في الخروج وضروري إخراج الجرحى والمرضى، إلا إذا تعارض ذلك مع متطلبات أمنية جدية، ومع ضرورة عدم فرض تهجير قسري.
الآثار الإنسانية للحصار وهي تتمثل في
ندرة الغذاء والدواء وارتفاع الأسعار، ما يؤدي إلى سوء تغذية ومضاعفات صحية.
انهيار الخدمات الأساسية: مثل المياه، والكهرباء، والصحة، والتعليم، مما يزيد من ضعف وانهاك السكان وخاصة الأطفال والنساء والمسنين والمرضى.
حالات نزوح داخلي وخارجي، وتكدس النازحين في مخيمات تفتقر للمعايير الإنسانية.
إحكام الحصار لفترات طويلة يخلق أزمات إنسانية ممتدة وتدهور في الوضع الصحي والاقتصادي.
خلفية موجزة عن مدينتا الفاشر وكادوقلي:
- الفاشر (عاصمة ولاية شمال دارفور) وكادوقلي (عاصمة ولاية جنوب كردفان) شهدتا صراعات متكررة خلال عقود من النزاع المسلح في السودان. النزاعات شملت قوات نظامية ومسلحين غير نظاميين، وأدت إلى موجات عنف ونزوح وتجريف للبنية التحتية.
- تقارير منظمات إنسانية وحقوقية دولية ومحلية أوردت أن مدنًا في هذه الولايات تعرضت لفترات انقطاع في الإمدادات الأساسية وقيود على حرية الحركة والولوج إلى خدمات طبية وغذائية، وهو ما وصفه بعض المراقبين بأنه أشبه بحالات حصار أو إغلاق للممرات الإنسانية في فترات التصعيد.
التحليل القانوني الذي ينطبق على المدينتين (ملاحظات عامة)
- وجود حصار أو طوق محكم يقتضي فحص عناصره: هل هو إجراء عسكري مشروع يستهدف أهدافًا عسكرية مع تأثير مدني محتمَل أم أنه يهدف أو يؤدي عمداً إلى تجويع المدنيين؟ الإجابة تحدد مشروعية الإجراء من منظور القانون الإنساني.
- إذا كانت التقارير تشير إلى منع منظّم وصول الإمدادات الغذائية والدوائية أو تعطيل خدمات المياه والمستشفيات عن عمد، فمثل هذه الأفعال قد تُشكّل انتهاكًا صريحًا لقاعدة حظر التجويع وواجب تسهيل الإغاثة، وقد تفتح الباب للمساءلة الجنائية إذا ثبت التعمد والإضرار الواسع بالمدنيين.
حتى عندما يكون في المدينة عناصر مسلحة، يبقى التزام قوات الهجوم بتقليل الأضرار المدنية قائماً؛ لا يجوز توزيع المعاناة على السكان المدنيين كعقوبة أو وسيلة ضغط عليهم.
دور الفاعلين المحليين والمجتمع الدولي - على السلطات المحلية والأطراف المسلحة: احترام قواعد التمييز والنسبة والاحتياطات، والسماح بمرور قوافل الإغاثة، وإعداد آليات لتلقي وتوزيع المساعدات بموضوعية وشفافية.
على المنظمات الإنسانية: توثيق الانتهاكات، بالتنسيق مع الأطراف لضمان وصول آمن ومحايد، والضغط على الجهات المعنية لرفع القيود عن المدنيين.
على المجتمع الدولي: فرض تدابير ضغط دبلوماسي وقانوني، دعم التحقيقات المستقلة، وتأمين تمويل غطاء لوجستي لمهمات الإغاثة.
توصيات عملية وقانونية
فتح ممرات إنسانية آمنة وخاضعة لمراقبة دولية لتوصيل الغذاء والدواء والخدمات الطبية إلى السكان المتضررين فورًا. - إجراء تحقيقات مستقلة وحيادية في المزاعم المتعلقة بمنع الإغاثة أو استهداف البنى التحتية المدنية، ومساءلة المسؤولين عند ثبوت الانتهاكات.
تعزيز قدرة المنظمات الإنسانية المحلية والدولية على العمل في الميدان مع ضمان سلامة العاملين. التزام الأطراف بإعلانات وإجراءات تفاوضية مؤقتة (وقف إطلاق نار إنساني أو اتفاقيات فصل) لحماية المدنيين وتخفيف المعاناة منهم.
دعم برامج إعادة تأهيل البنية التحتية الحيوية (مياه، صحة، كهرباء) وإعادة النازحين إلى مناطق آمنة مع احترام حقهم في البقاء أو العودة الطوعية.
ختاما
الحصار كإجراء عسكري غير محظور بطبيعته، لكنه يخضع لقيود جوهرية في القانون الدولي الإنساني التي تهدف إلى حماية المدنيين ومنع استخدام التجويع أو الحرمان كأسلوب حرب. حالة الفاشر وكادوقلي تبرز هشاشة المدن أمام آثار الحصار وضرورة التزام كافة الأطراف بالقواعد الإنسانية، مع مسؤولية المجتمع الدولي والمنظمات عن ضمان وصول المساعدات والتحقيق في الانتهاكات. حماية المدنيين يجب أن تبقى المعيار الحاكم في كل عمليات النزاع.