الإثنين, أغسطس 4, 2025
الرئيسيةمقالاتقرار وقف صيانة مباني ولاية الخرطوم..بين حفظ الذاكرة وتأكيد الجريمة .. ...

قرار وقف صيانة مباني ولاية الخرطوم..بين حفظ الذاكرة وتأكيد الجريمة .. بقلم د.إسماعيل الحكيم..


أعلنت الحكومة السودانية قرارها بوقف أعمال الصيانة في المباني الحكومية التي دمرتها مليشيا آل دقلو الإرهابية خلال الحرب. في خطوة وُصفت بأنها من أنضج قرارات مرحلة ما بعد تحرير الخرطوم قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا القرار إداري بحت ، لكنه في جوهره يمثل محطة استراتيجية مفصلية، تحفظ للسودان تاريخه وإرثه وتؤسس لمرحلة قادمة من المساءلة والتوثيق وحفظ الحقوق..
لقد كشفت الحرب عن حجم الخراب الذي أصاب مؤسسات الدولة، حيث تحولت مقار ووزارات ومؤسسات سيادية إلى أنقاض. وبحسب تقديرات أولية أجريت أن أكثر من 33 ألف مبنى في ولاية الخرطوم أصابها الضرر ، بينها نحواً من 29 مقراً وزارياً دُمر بالكامل، إضافة إلى أبراج مصرفية ومقار شرطية ومباني المخابرات، ومباني وزارة العدل، فضلاً عن نهب وتدمير متاحف كانت تضم آلاف القطع الأثرية التي وثقت لتاريخ السودان عبر العصور الممتدة .. فلم يكن الأمر مجرد أضرار جانبية كما يظن بعض الناس ، بل كان تخريباً ممنهجاً استهدف شطب ذاكرة الدولة ومؤسساتها. فقد سُرقت وثائق أرشيفية بالغة الأهمية ودُمرت مكتبات ودوائر تحتوي على مستندات تاريخية تُعد ركيزة لقراءة مسيرة السودان السياسية والاجتماعية والتاريخية .
قرار وقف الصيانة لم يأتِ عفوياً، بل انبنى على قناعة بضرورة تثبيت مشاهد الخراب كما هي، لتكون شاهداً حياً على الجريمة، وأدلة جنائية لا يمكن إنكارها أو طمسها بعمليات ترميم سريعة. إنه يوازي في قيمته قرارات مشابهة اتخذتها دول شهدت نزاعات مدمرة، مثل العراق وسوريا، حيث جرى تعليق بعض عمليات الترميم لحين استكمال المسح الجنائي والتوثيق القانوني.
بل إن بعض الدول حولت مواقع الدمار إلى مراكز توثيق وذاكرة وطنية، مثل ما جرى في البوسنة والهرسك عقب حرب البلقان، لتبقى شاهدة للأجيال على جرائم الحرب، ولتغدو لاحقاً جزءاً من مسارات العدالة الانتقالية.
إن نجاح هذا القرار يتوقف على ما سيتبعه من خطوات عملية مثل :

  • إطلاق فرق مسح جنائي شاملة تضم خبراء هندسة، مؤرخين، ومحققين قانونيين لتوثيق حجم الدمار بالصور والتقارير.
  • حصر المفقودات الوطنية، خاصة ما يتعلق بالقطع الأثرية والوثائق التاريخية، بالتنسيق مع المتاحف ودور الأرشيف.
  • إنشاء سجل وطني للدمار يُحفظ للأجيال القادمة، ويوثق عبره كل موقع حكومي أو تراثي تعرض للتخريب.
  • تأمين المواقع المتضررة لحمايتها من مزيد من النهب أو العبث حتى انتهاء التحقيقات.
  • التحضير لمرحلة العدالة الانتقالية، حيث تشكل هذه الأدلة ركيزة في أي محاكمات وطنية أو دولية لمحاسبة مرتكبي الجرائم.
    إن قرار وقف الصيانة لا يعني تعطيل الحياة إنما هو استثمار في الذاكرة الوطنية، يضمن ألا تضيع حقوق الأجيال القادمة في معرفة الحقيقة، وألا يُمحى أثر الجرائم التي ارتكبت بحق الدولة ومواطنيها. فالإعمار سيأتي لا محالة، لكن قبل ذلك يجب أن يُبنى سجل من الحقائق الموثقة، لتكون شاهداً على ما جرى، ودليلاً على أن الخراب لم يكن قدراً، بل كان فعلاً متعمداً من مليشيا مسلحة استهدفت حاضر السودان ومستقبله.
    بهذا المعنى، لا يمثل القرار إجراءاً إداريًا فحسب ، بل هو رسالة وطنية بأن الخراب سيبقى ماثلاً أمام الجميع حتى تُستعاد الحقوق، ويُحاسب المجرمون، ويُعاد بناء السودان على أسس أكثر رسوخاً وعدلاً بإذن الله تعالى..
مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات