كثيرة هي محاولات تعريف مصطلح ” المجتمع الدولي” ومتشعبة بحيث يصعب رسم إطار محدد يجمع بين هذه التعريفات وصياغتها في معنى واحد محدد وواضح القسمات..
هو مصطلح فضفاض وهلامي ورغم ذلك يجري استخدامه بكثافة في المجال السياسي، خاصة في مجال السياسة الدولية، غير أنه كثير الاستخدام في وسائل الإعلام.
ويعرفه الأكاديمي والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي بأنه يعني حرفياََ الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وتعريف تشومسكي في اعتقادي هو أكثر التعريفات دقة للمصطلح وهو “خام” قبل أن يصاغ بواسطة جهات دولية محددة ليصف دولاََ وكيانات دولية بعينها هي ذات الجهات التي صاغت المصطلح وفرضته فرضاََ على بقية الدول والكيانات في العالم..
فالجمعية العامة للأمم المتحدة تضم كل دول العالم وبالتالي فإنها هي الأحق بمصطلح المجتمع الدولي لأنها في الحقيقة وعاء جامع لكل دول العالم بلا تمييز وبلا تفريق بينها من حيث القوة أو الضعف، الكبر ، أو الصغر، أو الموقع الجغرافي أو نوع نظام الحكم أو الأسبقية في الانضمام.. وغيرها من صور الإختلاف بين الدول..
لكن في واقع الحال ، فإن الأمر يختلف كثيراً ، فالواقع الراهن يناقض هذا التعريف ويشير إلى أن المجتمع الدولي ينصرف فقط إلى دول وكيانات بعينها ، لم يتم تحديدها بالإسم ولكنها وبتواتر الحراك في السياسة الدولية برزت دول بعينها وأصبحت تتصرف باعتبارها هي المجتمع الدولي، وهذه الدول هي الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي، مضافاََ إليها إسرائيل.
والفكرة الرئيسية في هذا الإتجاه الذي يقصر المجتمع الدولي على فئة محدودة من الدول وليس غيرها، هي أن هذه الدول ترى أنها هي وحدها “الفاعلة” في السياسة الدولية، وأن ما سواها من بقية دول العالم “مفعول بها”، وأن قيمها وطرائق عيشها وثقافتها وسلوكها وقوانينها هي التي يجب أن تسود سواء بالقوة الناعمة ، أو بالقوة الخشنة، بالعصا أو بالجزرة..
وقد صيغت كل القوانين المسماة دولية في ضوء هذا الفهم القاصر المتحيز ، وأنشئت كل المنظمات والأجسام التابعة للأمم المتحدة على أساس القيم والثقافة الغربية ، وبالنظر إلى نظام إتخاذ القرارات في أجهزة الأمم المتحدة نجده يكرس لهذه القيم، ويدعم بشكل صريح وواضح سعي الدول الغربية للهيمنة على مقدرات وموارد العالم بما يحقق مصالحها هي وحدها على حساب باقي الدول . ويلاحظ أن جميع وكالات الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة تقع مقراتها ورئاساتها حصرياََ في هذه الدول وتدار وفقاََ لأنظمتها وفي حدود سياساتها ومن خلال منظورها الفكري ورؤيتها للعالم..
وبسبب هذه الطبيعة ” الحصرية” لما يسمى بالمجتمع الدولي حدثت كوارث وتفجرت أزمات وصراعات ونشبت حروب ، وحدثت فجوات معرفية وثقافية واقتصادية وسياسية بين هذه الدول وبقية دول العالم الغنية منها والفقيرة ، المتقدمة منها والمتخلفة على حد سواء .
إصرار دول ما يسمى بالمجتمع الدولي على فرض هيمنتها وسيطرتها على بقية دول العالم هو الذي يدفعها إلى الكيل بعدة مكاييل ، وهو الذي جعل أجهزة الأمم المتحدة عموماً أداة في أيدي هذه الدول تستخدمها لتحقيق مصالحها ، ويظهر هذا الاستخدام السيء بصورة واضحة في الأجهزة العدلية الدولية وفي تطبيقات القانون الدولي وفي نظام الصناديق المالية وسياسات البنك الدولي حيث تستخدم هذه الأجهزة لخدمة مصالح دول الغرب، وفي نفس الوقت في إعاقة التنمية في الدول الأخرى خارج المنظومة الغربية ، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
وقد أنتج هذا الاستخدام السيء للأجهزة الأممية واقعاََ دولياََ شديد الاختلال تنتهك فيه دول الغرب كل القوانين والأعراف والمواثيق الدولية في وضح النهار دون أن تتم محاسبتها ، وبدوره أنتج هذا الاختلال واقعاََ فرعياََ آخر يقوم على مبدأ القوة، وقاعدة البقاء للأقوى ، فالقوى الأخرى خارج منظومة الدول الغربية وجدت نفسها مكبلة بمجموعة من القيود المفروضة عليها بإسم القوانين الدولية بينما غيرها في حِل منها ولا تلتزم بها، لذا لجأت هذه القوى المستضعفة إلى استحداث عناصر قوة أخرى إقتصادية وسياسية وعسكرية تواجه بها هذا العسف الغربي لتنعتق من ربقته وقيوده..
بعض هذه القوى نجح نجاحاً كبيراََ ، وبعضها في طريقه إلى الإنعتاق وبعضها فشل فشلاََ ذريعاََ ، وبعضها رضي بأن يظل تحت الأسر والقيود والظلم الغربي..
ونحن في السودان ينبغي وبعد تجربة الحرب أن نعي الدرس، بعد أن رأينا وسمعنا ولمسنا بأيدينا الظلم والعسف والحيف والكيل المتعدد والمزدوج والتآمر ضدنا مما يسمى بالمجتمع الدولي وأجهزته ومحاكمه ووكالاته ومنظماته المسماة إنسانية ، ينبغي علينا أن نقتفي أثر من سبقونا في الإنعتاق من عبودية المجتمع الدولي فهو أكذوبة كبرى ، وأولى خطوات هذا الإنعتاق أن نبني عناصر قوتنا التي ستمكننا من الإنطلاق والتحرر..
نحتاج إلى بناء قوة إقتصادية ولدينا موارد هائلة تضمن لنا خلق هذه القوة، ونحتاج إلى بناء منظومة عسكرية صلبة متكاملة وحديثة ، فعالم اليوم تحول إلى غابة البقاء فيها بسلام يتطلب حيازة القوة وامتلاك المنعة للتعاطي مع محدثات الأمور في السياسة الدولية في ظل الهيمنة الغربية المتحالفة مع الصهيونية العالمية بالقوة العسكرية اللازمة والرادعة فهذا الحلف لا يعرف غير منطق القوة والردع..
ونحتاج أيضاََ إلى التخلي عن التعلق بما يسمى بالعدالة الدولية ، فهذا سراب بقيعة ، العدالة الدولية هي إحدى أربع مستحيلات وقد جربنا ذلك وذقنا مرارة الظلم فيه خلال تاريخنا الحديث ، وما قرار محكمة العدل الدولية الجائر الأخير منا ببعيد..
صحيح أن الاحتجاج بالقوانين الدولية واللجوء لأجهزتها في سعينا لتحقيق مصالحنا في الساحة الدولية أمر مطلوب ولا غنى عنه، ولكن ينبغي ألا نبني عليه فهو شفا جرف هار وأوهن من بيت العنكبوت..
لنا الحق في التعاطي الإيجابي مع هذه الأجهزة لكن دون أن نعتمد عليها كلية لأن ذلك رهان خاسر لا محالة، فالعالم اليوم تقوده قوى غاشمة ظالمة لا تؤمن بالعدالة..
لقد رأينا وما نزال نتابع العدوان الإسرائيلي على إيران وصمت المجتمع الدولي وأجهزته ووكالاته ومنظماته إزاء هذا العدوان الصارخ ، ورأينا وما نزال نتابع الأداء الاحترافي للقوة العسكرية الإيرانية وهي تغير المعادلة وتقلبها رأساََ على عقب بما أحدث تغييراََ مذهلاََ في ميزان القوى حتى الآن ما كان ليحدث لولا إدراك إيران لأهمية وفاعلية القوة العسكرية ليس فقط في الدفاع عن النفس، وإنما أيضاً في فرض هيبتها وتثبيت مكانتها وتحقيق مصالحها وصون سيادتها ، فقد كسرت إيران شوكة إسرائيل ووضعت قوتها التي طالما تباهت بها في محك وتحت اختبار صعب..
كسرت إيران أسطورة الدولة التي لا تقهر وعرّت إسرائيل وفضحتها على الملأ وجاءتها من فوقها ومن أسفل منها قصفاََ ورجماََ بالصواريخ و (قدّت) ما كانت إسرائيل تسميها بالقبة الحديدية التي اتضح أنها قبة من كرتون، لم تصمد في وجه نيران (الباليستية) و(الفرط صوتية) .. وهو ما يتوقع أن يفرض واقعاََ جديداََ على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي وعلى مستقبل الكيان الصهيوني ومشروعه الاستيطاني، ولن يكون السودان بعيداََ عن تأثيرات هذا الواقع الجديد المنتظر، فإسرائيل هي الداعم الأول عبر أداتها الإقليمية لميليشيا الدعم السريع الإرهابية ولمشروعها الاستيطاني ، ورأينا ورأى العالم كله كيف أثبتت القوة والأداء العسكري الرفيع للجيش والقوات المساندة له والمقاومة الشعبية جدارتها وهي تقهر ميليشيا الدعم السريع عنوة واقتداراََ على الأرض وبعيداََ عن قاعات التفاوض الباردة التي تحفها مصالح سماسرة السياسة الدولية وعملاء أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية..
وصدق أبو تمام القائل :
السيف أصدق أنباءاََ من الكتب..
في حده الحد بين الجد واللعب..
بيض الصفائح لا سود الصحائف..
في متونهن جلاء الشك والريب..
وأفضل من قول أبي تمام، قول ربنا :
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).