في ظل تصاعد احتمالات المواجهة المفتوحة بين إيران وإسرائيل، تكشف المواقف الخليجية المتباينة عن انقسام عميق في التصورات الأمنية، وتحولات بنيوية في مقاربات السياسة الخارجية. فمن التهدئة السعودية، إلى البراغماتية الإماراتية، إلى الوساطة القطرية، تتعدد الاستراتيجيات الإقليمية دون مظلة جامعة، في مشهد يختزل أزمة الرؤية الخليجية لمفهوم الأمن الجماعي.
السعودية: التهدئة كأداة لإعادة التموضع
مع توقيع اتفاق بكين بين الرياض وطهران في مارس 2023، برز تحوّل استراتيجي في العقيدة السعودية تجاه إيران، يقوم على فكّ الاشتباك الإقليمي واحتواء التصعيد عبر الانخراط الدبلوماسي. تسعى المملكة لتأمين بيئة إقليمية مستقرة تتيح لها التركيز على تنفيذ رؤية 2030، وتحقيق قفزات تنموية دون التعرض لهزات أمنية مفاجئة.
إلا أن هذا التموضع يواجه تحديات واضحة: فمع استمرار العداء بين طهران وتل أبيب، يصبح من الصعب فصل المسارات، خصوصًا إذا طال التصعيد البنية التحتية الخليجية أو مصالح السعودية الحيوية في مضيق هرمز أو البحر الأحمر. وبذلك، تبدو التهدئة أشبه بهدنة مشروطة أكثر منها تحوّلًا دائمًا.
الإمارات: الشراكة مع إسرائيل ضمن استراتيجية ردع مزدوجة
منذ توقيع اتفاقيات إبراهيم، دخلت الإمارات مرحلة جديدة من التعاون مع إسرائيل، تجاوزت الأطر الرمزية إلى مستويات عملياتية تشمل الأمن السيبراني، والدفاع الجوي، والاستخبارات. هذا التنسيق لا ينفصل عن سعي أبوظبي إلى بناء محور ردع إقليمي موازٍ لإيران.
في الوقت ذاته، تحافظ الإمارات على علاقات تجارية راسخة مع طهران، بما في ذلك الاستثمارات والربط اللوجستي عبر ميناء جبل علي. هذه الازدواجية تؤمن لها مصالح اقتصادية وتكتيكية، لكنها تُدخلها في منطقة رمادية: فكلما احتدمت المواجهة، أصبحت أبوظبي مطالَبة بتحديد أولوياتها، وسط ضغوط قد تأتي من الداخل والخارج.
السيناريو الأخطر يتمثل في احتمالية استهداف إيراني مباشر لمنشآت الطاقة أو الموانئ الإماراتية، خاصة في ظل تقارير استخباراتية تفيد بإدراج الإمارات ضمن “قائمة الرد” في حال شنّ هجوم إسرائيلي واسع.
قطر: الوساطة كأداة نفوذ ضمن حياد مدروس
تمتلك قطر خبرة متراكمة في أداء أدوار الوساطة، بدءًا من أفغانستان، مرورًا بإيران والولايات المتحدة، وصولًا إلى القضية الفلسطينية. هذا الدور لا ينبع من توازن القوى بل من استراتيجية “الحياد النشط”، التي تتيح لها الانخراط دون الانحياز.
تحافظ الدوحة على علاقات مستقرة مع طهران، دون أن تدخل في تحالف أمني أو محاور معادية لإسرائيل، ما يمنحها هامش مناورة مهمًا في أوقات الأزمات. إلا أن هذا التموضع قد لا يصمد إذا تحوّل الخليج إلى ساحة صراع، أو إذا تعرضت منشآت الغاز القطرية لأي تهديد.
الرهان القطري هنا يتمثل في البقاء كوسيط مقبول لدى الطرفين، وهو رهان ممكن لكنه محفوف بالمخاطر في ظل تسارع وتيرة التصعيد.
دول الخليج الأخرى: التباين الصامت
عُمان: تواصل التزامها بنهج الحياد الإيجابي، وتعدّ إحدى القنوات الخلفية الأهم في التواصل بين طهران والعواصم الغربية. لكنها، بحكم موقعها على مضيق هرمز، تجد نفسها في بؤرة أي تصعيد بحري.
الكويت: تتبنى موقفًا حذرًا يتماهى مع السعودية، لكنها تتجنب الانخراط المباشر في التحالفات الصلبة، خصوصًا بسبب حساسياتها الداخلية وسقفها الدستوري.
البحرين: تمثل الحلقة الأكثر التصاقًا بالتحالف الإسرائيلي – الأميركي، مما يجعلها هدفًا مرشحًا في حال اتساع رقعة الرد الإيراني، لا سيما مع وجود قاعدة الأسطول الأميركي الخامس في أراضيها.
الأزمة البنيوية في مقاربة الأمن الخليجي
ما يُقرأ على السطح كتباين في المواقف، هو في جوهره غياب لرؤية أمنية خليجية موحّدة. فمجلس التعاون، الذي شُكّل لمواجهة التحديات الجماعية، بات يفتقر إلى آليات صنع قرار فعالة، وانكمش إلى مظلة رمزية تتجاوزها الوقائع.
لقد أثبتت أزمات سابقة، كالحرب في اليمن، والموقف من إيران، وأزمة التطبيع، أن كل دولة خليجية باتت تصيغ أمنها القومي بمعزل عن الجوار، وفق تصورات ومصالح متباينة، بل متضادة أحيانًا.
ثلاث فرضيات لمسار الأزمة
- تنسيق أمني محدود:
قد تفضي التهديدات المتصاعدة إلى تنشيط قنوات تنسيق أمني، حتى وإن كانت ثنائية أو مؤقتة، بهدف تجنّب الاستهداف المباشر، أو تنظيم خطوط اتصال مع واشنطن. - المزيد من التفكك:
غياب الرؤية الجماعية قد يفتح المجال أمام القوى الكبرى، خصوصًا روسيا والصين، للتدخل كوسطاء أو ضامنين، على حساب السيادة الخليجية المستقلة. - انزلاق إلى صراع شامل:
إذا تحوّلت أراضي الخليج إلى منصات انطلاق لهجمات إسرائيلية أو قواعد أميركية، فإن الرد الإيراني قد يشمل أهدافًا خليجية، ما ينقل الأزمة إلى طور المواجهة الشاملة.
نحو عقيدة أمنية خليجية جديدة
أمام هذا الواقع، تبدو الحاجة ماسة إلى إعادة تعريف الردع الخليجي، لا كمجموعة أنظمة دفاعية، بل كمشروع سياسي جماعي يقوم على:
تعزيز التنسيق الاستخباراتي.
بناء إنذار مبكر ضد التهديدات المشتركة.
صياغة خطاب سياسي موحّد للأزمات الإقليمية.
تنويع الشراكات دون الارتهان لقوة بعينها.
ما لم يحدث ذلك، سيبقى الخليج في موقع المفعول به، ينتظر نتائج التوترات بين القوى الكبرى، ويكتفي بردود الفعل بدل المبادرة.
الختام: الخليج على مفترق طرق
لم تعد دول الخليج تملك ترف الحياد الغامض، ولا مساحة الاصطفاف غير المشروط. التصعيد الإيراني-الإسرائيلي لا يهدد فقط أمن المنطقة، بل يختبر جوهر السيادة الخليجية وقدرتها على المبادرة بدل الاستجابة.
ويبقى السؤال:
هل يمكن للخليج أن يصوغ مساره الأمني الخاص قبل أن يُفرض عليه من الخارج؟