في السودان، لا تبدأ الأيام بشروق الشمس فحسب، بل تبدأ بالصبر.
حين تفتح أمٌ عينيها لتجد أطفالها نائمين على الأرض بعد ليلة بلا كهرباء، ولا ماء، ولا أمان، لكنها تمسح على رؤوسهم وتبتسم. ليس لأن شيئاً قد تغيّر، بل لأنها اختارت أن تزرع فيهم أملاً، ولو من رماد.
في أحد أحياء بحري، يمضي الشاب “طارق” يومه حاملاً هاتفه المكسور، يبحث عن تغطية شبكة عابرة ليطمئن على أمه التي هُجّرت إلى مدينة أخرى. يقول: “الحرب سرقت منّا كل شيء إلا صوت أمي… لازم أسمعو.”
وفي جبل أولياء، تجلس “الحاجة فاطمة” خلف قِدر صغير على نار الحطب، تطبخ العدس لأطفال جيرانها بعد أن علمت أن والدتهم لم تأكل منذ يومين. تقول ببساطة: “بنتقاسم النار قبل ما نتقاسم اللقمة.”
السوداني اليوم لا يعيش حياة طبيعية، بل يصنع حياة وسط اللامعقول.
لا وقود؟ لكن أقدامه تحفظ دروب الحياة وتمضي رغم التعب.
لا دواء؟ لكنه يضمّد جراحه بالدعاء، ويواسي الآخرين ببسمة تُسكّن ما لا يُسكّن.
لا خبز؟ يخبز ولو أحرقته النيران.
لا سلام؟ يتكئ على ضحكة طفل، أو دعاء أم، أو حتى على أغنية من زمن جميل.
إنه يُولد من ضيق الحياة اتساعًا.
شعب تعوّد أن يكتب “أنا بخير… الحمد لله”، حتى لو كان كل شيء حوله منطفئًا.
ورغم قسوة الأيام، يعيش لا لأن الحياة تعطيه، بل لأنه يعطي الحياة معناها.
يقول الحاج عبد الرحمن، وهو يجلس تحت شجرة بعد أن دُمّر بيته:
“طالما الشمس بتطلع، في أمل. ولو ما في أمل، نحن بنصنعو.”
هكذا هو السودان اليوم: بلد ينزف، لكنه لا ينحني.
وطن مكسور، لكنه لا يفقد كرامته.
ناسُه من طين الأرض، وقلوبهم من نور.
فالعظيم ليس من لا يسقط، بل من ينهض في كل مرة، ويزرع حلمًا في قلب الركام.