بعد ثورة ديسمبر المجيدة، التي أطلقت شعارات “حرية، سلام، وعدالة”، تنفّس السودانيون الصعداء بعد سنوات من الكبت والقمع، وأصبح سقف التعبير عاليًا، والحديث في الشأن العام متاحًا.
لكن مع هذا الانفتاح، ظهرت ظاهرة خطيرة تهدد الأمن الاجتماعي والانسجام الوطني، ألا وهي خطاب الكراهية.
لقد استغل بعض الأفراد والجماعات مناخ الحريات، لا لتكريس قيم الديمقراطية والتعايش، بل لنشر خطاب عنصري جهوي تقسيمي، يزرع الشكوك ويغذي الفتن بين مكونات الشعب السوداني.
انتشرت في المنصات الرقمية والندوات العامة عبارات تنال من المكونات الاجتماعية والعرقية المختلفة، وتقسم الناس إلى “أصليين” و”وافدين”، وتستخدم القبلية كسلاح سياسي ومجتمعي.
وانتشرت خطابات الاستعلاء والتخوين والفرز الجهوي، في مشهد مؤلم وغريب على تاريخنا الطويل في التعايش والتسامح.
السودان… وطن التنوع والتعدد
السودان لم يكن يومًا وطنًا أحادي الثقافة أو اللغة أو الهوية.
بل هو بلد تتداخل فيه الألسن، وتتشابك فيه الأعراق، وتتكامل فيه الثقافات.
من دارفور إلى البحر الأحمر، ومن جبال النوبة إلى الشمالية، ومن الشرق إلى الغرب، يعيش السودانيون على اختلاف مشاربهم وتاريخهم جنبًا إلى جنب، يشربون من ذات النيل، ويرجون ذات الأمل.
لكن شيطان العنصرية، حين يُترك بلا محاسبة، يمكن أن يهدم هذا البناء المعقد والجميل في وقت وجيز.
وحين يُسمح لخطاب الكراهية أن يسود، تتحول الحرية إلى لعنة، والديمقراطية إلى فوضى.
أمثلة من الواقع
لقد شهدنا خلال السنوات الماضية تصاعدًا ملحوظًا في خطابات الإقصاء والاحتقار، سواء على أساس العرق أو الإقليم أو اللهجة أو لون البشرة.
ومع تفشي السوشيال ميديا، أصبحت هذه الخطابات تنتشر كالنار في الهشيم، وتؤثر في الوعي الجمعي، خاصة لدى الشباب.
وفي ظل غياب رقابة فعالة أو مساءلة قانونية، تحوّل بعض الناشطين إلى منابر كراهية، يحرّضون على بعض المكونات، ويشوّهون صورة الآخرين، ويهددون السلم الاجتماعي، باسم حرية الرأي.
الحكومة… غياب الرؤية وضعف المواجهة
لم تقم الحكومات المتعاقبة بواجبها كاملاً في سن القوانين الرادعة، ولا في مراقبة المحتوى الإعلامي والخطابي الذي يحض على الكراهية.
كما أن غياب مشروع وطني جامع يُعلي من قيمة المواطنة على حساب الانتماءات الضيقة ساهم في تفاقم الأزمة.
النتيجة؟
تمزق في النسيج الاجتماعي، واتساع دائرة الشك، وتزايد النزاعات القبلية، وانتشار مشاعر الاغتراب داخل الوطن الواحد.
الحل في التوعية والردع والمصالحة
لكي نحمي وطننا، ونضمن مستقبلاً يسوده التعايش، لا بد من اتخاذ خطوات جادة، على رأسها:
- إصدار قانون يجرّم خطاب الكراهية، ويحاسب كل من يحرّض على العنف أو العنصرية أو الإقصاء، سواء في الإعلام أو في الفضاء الرقمي.
- إطلاق حملات وطنية عبر وسائل الإعلام والتعليم، لتعزيز مفاهيم المواطنة، والتعايش، والتنوع الإيجابي.
- مراجعة المناهج التعليمية لتغرس في النشء قيَم تقبل الآخر، والاعتزاز بالتعدد، واحترام المختلف.
- تشجيع الأدب والفن والمسرح كمنافذ للتعبير عن التنوع السوداني، وإبراز جمال فسيفساء الوطن.
- دعم المبادرات الشعبية والمجتمعية التي تسعى لرأب الصدع، وتعزيز الروابط بين القبائل والمكونات المختلفة.
- تفعيل دور الإدارة الأهلية والقيادات المجتمعية في الوساطة، وحل النزاعات، والتصدي لخطاب الكراهية على المستوى المحلي.
الخاتمة…
الوطن ليس ملكًا لقبيلة، ولا حكراً على جهة، ولا إرثًا لمجموعة دون أخرى.
السودان وطن يتسع للجميع، ولن ينهض إلا بوحدة أبنائه، واحترامهم لبعضهم البعض.
خطاب الكراهية ليس حرية تعبير، بل قنبلة موقوتة تهدد السلم الوطني، وتقوض دعائم الدولة.
فلنقاومه بالفكرة، بالقانون، وبإرادة وطنية موحّدة.