في عالم تتغير فيه موازين السياسة وأساليب الحكم، أثبتت التجارب أن القمع لا يصنع استقرارًا، وأن القبضة الأمنية وحدها لا تصنع وطناً آمناً. وتجربة السودان لا تختلف عن غيرها من الدول التي حاولت أن تخمد الغضب الشعبي بالهراوات والبمبان، فانتهى بها الأمر إلى ثورات، أو انهيارات، أو حروب أهلية.
نظرة سريعة إلى جوارنا تكشف الدرس بوضوح: ما حدث في سوريا وليبيا واليمن دليل كافٍ على أن كلفة تجاهل الشعوب أكبر بكثير من كلفة الحوار معها.
السودان يحتاج إلى حوار لا إلى مسكنات
منذ سقوط نظام المؤتمر الوطني، يعيش السودان على وقع صراعات متعددة: سياسية، اجتماعية، جهوية، ومسلحة. وبينما يتحدث البعض عن “عودة الحياة السياسية”، فإن الشارع لا يرى انعكاسًا حقيقيًا لهذه الحياة على واقعه المعيشي أو السياسي أو الأمني.
في المقابل، ما زالت المقاربات الأمنية تطل برأسها، فكلما ارتفعت الأصوات بالاحتجاج، كان الرد البمبان والاعتقالات، والنتيجة: حلقة مفرغة من الغضب والتصعيد.
لكن، هل هذا هو الطريق؟
الحوار الحقيقي يبدأ من الشارع… لا من الفنادق
ما يحتاجه السودان ليس مؤتمرًا للحوار في قاعة مكيفة، ولا محاصصة سياسية في شكل صفقة جديدة، بل حوار سوداني سوداني حقيقي، يبدأ من الداخل، ومن الفاعلين الحقيقيين في الساحة:
الشباب في لجان المقاومة
الثوار المستقلين
المبادرات المجتمعية
الأكاديميين والمفكرين
النساء اللاتي حملن الثورة على أكتافهن
الأقاليم التي طالما تم تهميشها
وليس حوارًا يُدار مع أحزاب كرتونية أو حركات مسلحة تمارس السياسة كمتاجرة أو وظيفة.
لقد جُرّبت هذه الوصفات من قبل: حوار الوثبة نموذجًا، وكانت النتيجة أن النظام الذي نظمه سقط رغم شعاراته الحوارية، لأن الشعب أدرك أنه حوار شكلي لا يمت للواقع بصلة.
لا تجرّبوا المجرب
التاريخ القريب يعلمنا أن من حرّك الشارع في ديسمبر، ومن قاوم انقلاب 25 أكتوبر، ومن صمد في وجه القمع، ليسوا محترفي البيانات السياسية، ولا أصحاب اللافتات الجاهزة، بل هم شباب الشوارع والميادين، من قدموا تضحياتهم دون منٍّ ولا رياء.
وهؤلاء الشباب، وإن خفت صوتهم الآن بفعل القمع والتشظي، إلا أن نار التغيير في دواخلهم لم تنطفئ. وكل ما يحتاجونه هو بارقة أمل وشعور بالجدية لكي يعودوا أكثر تنظيمًا وتأثيرًا.
من أجل سلام دائم لا قمع مؤقت
إذا كانت هناك إرادة حقيقية للخروج من هذا النفق، فإن الدعوة إلى حوار وطني شامل ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية.
ولكن، لتكون هذه الدعوة ذات معنى، يجب أن تكون:
دعوة جادة لا تكتيكًا سياسيًا
دعوة شاملة لا انتقائية
دعوة من الداخل لا بإملاء الخارج
دعوة تُبنى على العدالة الانتقالية والمحاسبة لا النسيان والتجاوز
خاتمة… من أجل سودان لا يُحكم بالبمبان
في النهاية، لا الأمن يحقق السلام، ولا القمع يصنع الاستقرار.
وحده الحوار الوطني الجاد، المعبر عن تطلعات الناس، القائم على الاعتراف بالأخطاء والاستعداد للإصلاح، هو ما يمكن أن يقود السودان إلى بر الأمان.
فلنختر الطريق الأصعب، لكنه الأصدق: طريق الحوار… لا طريق البمبان.