إن التاريخ حين ينتصر الوطن على محنة وقعت على أهله فإنه سيكتب بمداد العزة والشموخ إحدي إفرازات الحرب السالبة أن تهجيراً قسرياً ونزوحاً مستقصداً من أرض إلى أخرى قد وقع ، بل كان محاولة لاقتلاع الجذور، وكسر الإرادة، وتمزيق الهوية. لكنه كان امتحانًا آخر لصلابة هذا الشعب السوداني الفريد ، الذي لم يركن إلى اليأس، ولم يستسلم للضياع، بل أعاد كتابة الحكاية على طريق العودة ، حيث لا يعود الناس وحدهم ، بل تعود معهم روح السودان، ونبضه المتماسك، وأخوّته التي لم تنكسر رغم المحن.
مشهد العودة الطوعية الي المدن التي تحررت .. شهادة حياة
اليوم ، حيث يعود أهل السودان إلى ديارهم، بعد سنوات عجاف من التهجير القسري والنزوح القاسي ، في لوحة تراحمية قلّ أن تجد لها مثيلًا. مشهد لا تصنعه السياسات، ولا ترسمه المؤتمرات، بل ينسجه النبل الإنساني، ويحيكه التكافل الفريد الذي تميّز به هذا الشعب. هنا لا يعود المرء منفردًا، بل محمولًا على أكف الإخاء، ومستندًا إلى قلوب لم تعرف القسوة ، وإلى سواعد حملت عنه ثقل الطريق.
لقد عطلّت الحرب كل شيء كما هو معلوم ، أوقفت عجلة الإنتاج، وأغلقت المصانع، وجعلت الخوف سيد المشهد، لكن شيئًا واحدًا لم ينطفئ ولن ينطفئ روح العطاء . فمن رحم المعاناة، خرج أهل الخير، الذين لم ينتظروا قرارًا ولا دعوة، بل صنعوا سبل العودة الطوعية ، ففتحوا الطرقات للبيوت، وجمعوا التبرعات طيبة بها الأنفس، وذلّلوا العقبات، حتى يعود كل نازح إلى داره، إلى ذلك الأمان المفقود، الذي أصبح اليوم حقيقة تترسّخ مع كل قافلة عائدة.
قد يختلف السودانيون في كل شيء، إلا في حرب الكرامةو لحظات محنها ، حيث أصبح السودان كيانًا واحدًا، تتلاقى فيه الأيدي متشابكة ، وتتعاضد فيه القلوب مؤتلفة. فلا عجب أن تكون العودة الطوعية مشهدًا سودانيًا خالصًا، لا تصنعه الحكومات وحدها، بل يصنعه الفقراء قبل الأغنياء، والمحرومون قبل المترفين، أولئك الذين آثروا إخوانهم على أنفسهم، رغم شدة الفاقة، وقسوة الظروف.
فهي معجزة هذا الوطن، الذي لم تستطع الحرب أن تنزع منه روحه الإخائية، ولم تفلح النوازل في كسر صلابته. فمن خرج مهجرًا، لم يتركه السودانيون لمصيره، بل وجدت له الأيادي البيضاء طريق العودة، كما لو أن الوطن ذاته يمشي إليه، يحتضنه، ويقول له: “لم تكن غريبًا يومًا ، ولن تكون”.
فهذه العودة ليست مجرد نهاية لفصل النزوح ووضعوعصا الترحال ، بل إعلان صريح بأن الحرب تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن السودان بدأ يضمد جراحه، ويستعد لكتابة فصل النصر القريب بإذن الله تعالى. فحين يعود الناس إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم ، فهذا يعني أن العاصفة قد هدأت، وأن الطريق إلى المستقبل بات واضحًا، وأن السلام لم يعد حلمًا بعيد المنال، بل واقعًا يفرض نفسه بقوة.
إنها رسالة للداخل والخارج، بأن هذا الشعب عصيّ على الكسر، وبأن السودان الذي أرادوا له أن يتمزق، ها هو يعود ليلتحم من جديد، ليكتب بعرق العائدين ودموعهم أن الوطن ليس مجرد جغرافيا، بل روح تسكن القلوب، لا تغيب، ولا تضعف، ولا تموت.
شكرًا لصنّاع الأمل
وجزاء الله خيرًا كل من كان سببًا في هذه العودة، كل من أنفق، وسعى، واحتضن، كل من حمل همًّا، أو مد يدًا، أو فتح بيتًا، فهؤلاء هم من صنعوا فجر السودان الجديد، ورسموا الطريق نحو النصر، الذي بات أقرب مما يظن الجميع، بإذن الله تعالى.
عودًا حميدًا أيها العائدون.. ومرحى لسودان ينتصر بإنسانيته قبل أي شيء آخر.