إنَّ صدور قرار تعيين آمنة ميرغني محافظًا لبنك السودان المركزي، لتكون المحافظ رقم (18) في تاريخه الممتد منذ الاستقلال ، جعل الأنظار تتجه إلى المؤسسة المالية الأهم في البلاد، حيث تُصنع السياسات النقدية وتُرسم ملامح الاستقرار الاقتصادي.
يأتي هذا التعيين في ظرف اقتصادي استثنائي، تتداخل فيه أزمات سعر الصرف والتضخم والنظام المصرفي وضعف الإنتاج الحقيقي، مما يجعل مهمة المحافظ الجديد واحدة من أعقد المهام في تاريخ البنك.
ويُعد سعر الصرف المؤشر الأوضح لصحة الاقتصاد السوداني، وهو اليوم يعكس واقعًا هشًا نتيجة تراكمات طويلة من الاختلالات في ميزان المدفوعات، وتراجع الصادرات، وتعدد أسعار الصرف الرسمية والموازية.
وتدرك المحافظ الجديدة أن نجاحها في هذا الملف يتطلب تحقيق توازن بين السياسة النقدية والانضباط المالي، عبر حزمة إجراءات متكاملة تشمل:
- زيادة موارد النقد الأجنبي من خلال تنظيم صادر الذهب والسلع الزراعية والرعوية.
- ضبط الاستيراد بما يتناسب مع الأولويات الوطنية وتقليل الطلب على العملات الأجنبية.
- تعزيز احتياطيات البنك المركزي عبر سياسات شراء ذهب واقعية تضمن جذب المنتجين لا إخافتهم.
- إعادة الثقة إلى الجهاز المصرفي لرفع حجم التحويلات عبر القنوات الرسمية بدلاً من السوق الموازي.
إن تعافي الجنيه السوداني لن يتحقق بالقرارات الإدارية وحدها، بل عبر استعادة التوازن بين العرض والطلب على النقد الأجنبي، ورفع كفاءة السياسات النقدية في امتصاص السيولة وتوجيهها نحو الإنتاج.
ويمثل الذهب الرافعة الأهم للاقتصاد السوداني في المرحلة الراهنة، إذ يشكل ما يزيد على 70% من الصادرات الرسمية، لكنه ظل موردًا مضطربًا بفعل التهريب وضعف القنوات الرسمية للتسويق.
فاحتكار البنك المركزي لشراء الذهب وفق موجهات الحكومة يمثل خطوة في اتجاه تنظيم السوق، لكنه قد يتحول إلى عبء إذا لم يُدار بكفاءة وشفافية وآليات تسعير عادلة.
والرهان هنا هو أن تنجح المحافظ في تحويل الذهب إلى أداة نقدية لتعزيز الاحتياطي الأجنبي ودعم الجنيه، عبر سياسات مرنة تراعي المنتجين والمستثمرين، وتشجع الشفافية والمنافسة المنظمة، لا الاحتكار الإداري الصارم.
ومن أبرز الملفات التي تنتظر آمنة ميرغني هو إصلاح القطاع المصرفي السوداني، الذي يعاني من: - ضعف في الملاءة المالية لبعض المصارف.
- محدودية الابتكار والخدمات الإلكترونية.
- قصور في تطبيق معايير الامتثال الدولية (AML/CFT).
- تدني الثقة الشعبية في الجهاز المصرفي.
ولعل مفتاح النجاح في هذا الملف يكمن في إعادة الانضباط الإداري والمالي، وتفعيل الرقابة الميدانية والرقمية، إلى جانب تحديث البنية التكنولوجية التي باتت شرطًا لأي اقتصاد حديث.
كما يُنتظر من المحافظ أن تدفع نحو دمج المصارف الصغيرة لتكوين كيانات مصرفية قوية قادرة على تمويل الإنتاج والمشروعات القومية.
من الدروس الكبرى التي أفرزتها التجارب السابقة أن غياب التناغم بين وزارة المالية وبنك السودان كان أحد أهم أسباب ضعف الأداء الاقتصادي.
فالمالية تضع السياسات المالية عبر الموازنة والإنفاق العام والضرائب، بينما يرسم البنك السياسات النقدية من خلال سعر الفائدة، والتمويل، والسيولة، وسعر الصرف. ولا يمكن لأي اقتصاد أن يتعافى ما لم يكن هناك تنسيق مؤسسي دقيق بين الجانبين، بحيث تخدم السياسة المالية أهداف السياسة النقدية لا أن تُفشلها.
وإنَّ أولى اختبارات المحافظ الجديد ستكون بناء جسور تواصل فعالة مع وزارة المالية، لتكوين رؤية اقتصادية موحدة تحارب التضخم وتدعم الإنتاج وتعيد الثقة إلى الأسواق.
إن أولى أولويات النجاح في إعادة التوازن للاقتصاد السوداني لن يأتي إلا من خلال تبني رؤية نقدية جديدة تتجاوز المعالجات قصيرة المدى إلى إصلاح هيكلي طويل الأمد، يقوم على: - تحرير تدريجي ومدروس لسعر الصرف.
- تعزيز الشمول المالي والتحول الرقمي.
- تمويل الإنتاج الزراعي والصناعي بدلاً من التمويل الاستهلاكي.
- إنشاء قاعدة بيانات مالية موحدة تربط المصارف بالجهات الحكومية والقطاع الخاص.
وبتعيينها محافظاً تدخل آمنة ميرغني بنك السودان المركزي في لحظة حرجة، لكن الفرص ما زالت قائمة إذا ما توفرت الإرادة السياسية والدعم المؤسسي والتكامل بين السياسات.
إن إعادة الثقة في الجنيه السوداني ليست معركة أرقام فقط، بل معركة وعي ومؤسسات، تتطلب قيادة تمتلك الرؤية والقدرة على اتخاذ القرار.
ويبقى السؤال مفتوحًا:
هل تنجح المحافظ الثامنة عشرة في تحويل البنك المركزي من جهاز إداري إلى عقل اقتصادي فاعل يقود التعافي الوطني؟Elhakeem.1973@gmail.com