الخرطوم – أغسطس 2025
في بلد تمزقه الحرب منذ 15 أبريل 2023، يبرز قطاع الدواجن في السودان كأحد القطاعات القليلة القادرة على النهوض السريع، إذا ما توفرت له البيئة المناسبة. فبفضل مرونته، ودورته الإنتاجية القصيرة، وأهميته في توفير البروتين الحيواني، يشكل هذا القطاع ركيزة محورية في تحقيق الأمن الغذائي وتوفير فرص العمل، في وقت يعاني فيه السودان من تراجع حاد في إنتاج اللحوم الحمراء بسبب النزاعات والجفاف.
من نهضة إلى انهيار مفاجئ
يحكي السودانيون مازحين أن “الدجاجة لم تكن تُذبح إلا إذا كانت مريضة، أو كان من تُذبح له مريضًا!”، لكن هذا تغيّر مع الطفرة التي شهدها القطاع منذ تسعينات القرن الماضي. فقد انتشرت مزارع التسمين وإنتاج بيض المائدة، وأصبح الدجاج مصدرًا رئيسيًا للبروتين الحيواني، خصوصًا في المناطق الحضرية.
قبل اندلاع الحرب، كان السودان ينتج أكثر من 80% من استهلاكه المحلي من الدواجن، وكانت معظم المزارع تتركز في ولايات الخرطوم، الجزيرة، النيل الأبيض، نهر النيل، والشمالية.
لكن الحرب ضربت القطاع كزلزال: أكثر من 80% من المزارع خرجت عن الخدمة، إما بسبب التدمير والنهب، أو لتحولها إلى مواقع عسكرية، ما أدى إلى توقف الدورة الإنتاجية، وشح الكتاكيت عمر يوم، نتيجة لفقدان جزء كبير من قطيع الأمهات.
كهرباء مفقودة.. وإنتاج مهدد
الكهرباء هي شريان الحياة لمزارع الدواجن، خاصة في فصل الصيف الذي ترتفع فيه درجات الحرارة. فالمزارع تعتمد على التهوية والتبريد للحفاظ على حياة القطيع.
ومع الانقطاع شبه الكامل للكهرباء القومية، اضطرت المزارع للاعتماد على المولدات، ما أدى إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج بنسبة تتراوح بين 30% إلى 50%، بحسب تقديرات عدد من المربين.
ومع نقص الوقود وارتفاع أسعاره، باتت الاستمرارية في التشغيل مغامرة خاسرة.
أعلاف شحيحة وأدوية منهوبة
لم يتوقف الضرر عند المزارع. فقد تعرضت أكثر من 90% من شركات الأدوية البيطرية واللقاحات للنهب أو التدمير، ما أدى إلى نقص حاد في الأمصال، وسط مخاوف من عودة أمراض كانت قد اختفت بفضل التحصينات الدورية.
وفي جانب الأعلاف، أدى توقف عدد من المطاحن الكبرى، وغياب وسائل النقل الآمنة، إلى تراجع الإنتاج وارتفاع الأسعار بصورة غير مسبوقة، مما فاقم أعباء المنتجين، وانعكس سلبًا على المستهلكين.
أزمة اقتصادية.. وخطر غذائي
قطاع الدواجن هو أحد أكبر القطاعات المشغّلة للعمالة في السودان، ويضم آلاف العاملين في سلاسل الإنتاج والتوزيع والتسويق. ومع انهيار هذا القطاع، ارتفعت أسعار الدجاج والبيض بنسبة تتراوح بين 80% إلى 150%، في ظل تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، وتزايد تهديدات الأمن الغذائي.
وتؤكد تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) أن الدواجن من أكثر القطاعات فعالية في تحقيق الأمن الغذائي في الدول الخارجة من النزاعات، نظرًا لقصر دورة إنتاجها وسهولة تعافيها
.
الفرصة الاستراتيجية: دواجن بدلًا عن اللحوم الحمراء في واقع الحرب
تأتي أهمية قطاع الدواجن اليوم مضاعفة، خاصة بعد تحرير ولايات الخرطوم، الجزيرة، سنار، والنيل الأبيض، وهي المناطق التي تحتضن البنية التحتية الأساسية للإنتاج والتوزيع. في المقابل، ما تزال الحرب أكثر ضراوة في أقاليم كردفان ودارفور، والتي تُعد المصدر الرئيسي للحوم الحمراء في السودان، إضافة إلى إنتاج كسب الفول السوداني، أحد المدخلات الرئيسية في صناعة أعلاف الدواجن.
هذا الواقع الجغرافي الجديد يستدعي إعادة التفكير في خارطة الإنتاج الزراعي والغذائي، وتوجيه الجهود نحو دعم قطاع الدواجن كمصدر بديل وآمن للبروتين الحيواني، يمكن تشغيله في المناطق المحررة بسرعة وفاعلية.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى:
• إطلاق مبادرات لزراعة فول الصويا في جنوب النيل الأزرق وجنوب القضارف، لتأمين بديل محلي مستدام لكسب العلف.
• تحسين جودة الفول السوداني المنتج في ولاية الجزيرة، عبر التوسع في إنتاج الأصناف الخالية من مادة الأفلاتوكسين، ما يضمن سلامته كمكون رئيسي في أعلاف الدواجن.
خطة إنقاذ عاجلة.. قبل فوات الأوان
يناشد العاملون في القطاع الحكومة والشركاء الدوليين تبني خطة طوارئ وطنية لإنعاش قطاع الدواجن تتضمن:
- إعادة الكهرباء للمناطق الزراعية
من خلال خطوط مستقلة أو مشاريع طاقة شمسية لتقليل الاعتماد على المولدات المكلفة. - تمويل إسعافي مباشر
يشمل تأهيل المزارع المتضررة وتوفير الكتاكيت والأعلاف، مع جدولة الديون مع البنوك. - إعفاءات مؤقتة من الرسوم الجمركية والضرائب
على مدخلات الإنتاج مثل الأدوية واللقاحات والأعلاف والمعدات. - تشجيع التمويل بالآجل
بالسماح باستيراد المعدات ومدخلات الإنتاج بالتمويل المؤجل، إذا توفرت ضمانات خارجية. - شراكات إنتاجية
بين الشركات الكبرى والمربين الصغار، لتمويلهم بالكتاكيت والأعلاف بنظام التوريد التشاركي. - شراكات دولية مع الفاو
لإطلاق برامج دعم فني وتمويلي للمربين، والاستفادة من تجارب دول تعافت من الحروب مثل رواندا وأوغندا.
فرصة للنهوض.. لا للبكاء على الأطلال
رغم القتامة التي تلفّ المشهد، إلا أن الخبراء يؤكدون أن قطاع الدواجن من أسرع القطاعات القابلة للتعافي. فالدجاج لا يحتاج لسنوات للنمو، بل لأسابيع، والمزارع لا تتطلب بنى تحتية معقدة، بل كهرباء مستقرة، أعلاف كافية، وأدوية فعّالة.
إن استثمارًا صغيرًا اليوم في هذا القطاع، يمكن أن يساهم في سد فجوة الأمن الغذائي خلال أشهر قليلة، ويوفر آلاف الوظائف، ويساعد على استقرار الأسر النازحة، ويعيد الأمل في بناء اقتصاد زراعي متوازن.