في الوقت الذي يخوض فيه الوطن معركة مصيرية ضد التمرد والانفلات، نجد أنفسنا أمام معركة أخرى لا تقل خطرًا: معركة الوعي.
خلال جلسة عابرة جمعتني ببعض الشباب مؤخرًا، فوجئت بموقفهم من الحرب الدائرة في السودان، إذ أجمعوا – للأسف – على أنها مجرد “صراع على السلطة بين جنرالين”!
طرح كهذا يكشف حجم الهوة في الإدراك الوطني، ويؤكد أن الجبهة الداخلية ما زالت تعاني من تصدعات في الفهم، تحتاج إلى ترميم عاجل.
أولاً: هل يمكن التوفيق بين جنرالين يختلفان على السلطة؟
لنفترض جدلاً – كما يقولون – أن ما يحدث هو صراع بين قائدين، فهل يمكن التوفيق بين من يقف على رأس مؤسسة قومية دستورية عريقة، هي القوات المسلحة السودانية، وبين من تمرد عليها بالسلاح، وخان القسم، وتحول إلى مليشيا منفلتة تنفذ أجندات خارجية؟
هذا ليس اختلافًا إداريًا بين جنرالين، بل هو تمردٌ مكتمل الأركان على الدولة، والمؤسسة العسكرية، والمجتمع السوداني كله.
فأية مفاوضات تلك التي ستُعيد الخائن شريكًا في السلطة بعد أن قتل، ونهب، واغتصب، وشرّد، وخان؟
بل على ماذا سنتفاوض؟ على نصيب في الدولة؟ أم على شرعنة الجريمة؟
أي عقل راشد يقبل بذلك؟ وأي ضمير يمكن أن يمرر تلك الصفقة المسمومة؟
ثانيًا: الفرق بين الجيش والمليشيا
الجيش السوداني مؤسسة وطنية عريقة، نشأت قبل الاستقلال، ومرت بتجارب وطنية عميقة، حامية للحدود، وضامنة لوحدة الأرض.
بينما ما تُسمى بـ”قوات الدعم السريع” كانت تشكل جزءًا من الجيش، ثم تمردت عليه، وارتكبت ما يندى له الجبين من فظائع ضد المدنيين في كل مدينة دخلتها، بدءًا من الخرطوم إلى مدني، مرورًا بسنجة والدندر.
هل رأيتم مدينةً دخلها الجيش ودُمّرت كما حدث في أحياء العاصمة على يد المليشيا؟
هل سمعتم عن حالات اغتصاب جماعي، ومجازر، وسرقة ونهب للمواطنين، في منطقة يسيطر عليها الجيش كما حدث في بحري ودارفور تحت سيطرة المليشيا؟
كل من يساوي بين الجيش والمليشيا، إما جاهل بالواقع، أو مغرض متعمد لتشويه الحقيقة.
ثالثًا: السطحية كارثة وطنية
إن أخطر ما يواجه السودان اليوم ليس الرصاص وحده، بل سطحية الوعي السياسي، وميوعة المفاهيم الوطنية.
البعض يُغلف خيانته بغلاف “الحياد”، ويمرر الأكاذيب تحت لافتة “السلام”، دون أن يعترف بأن من يُطلق عليه “طرف النزاع” الثاني، هو مليشيا إرهابية مدانة دوليًا.
إن الحقيقة التي يجب أن يفهمها الجميع أن هذه الحرب لم تكن خيار الجيش، بل فُرضت عليه. والمليشيا لم تأتِ لتحرير الشعب، بل لتحكمه بالحديد والنار ضمن مشروع خارجي مشبوه، ظهر من دعم الإمارات، وتورط حفتر، وغياب البوصلة الوطنية.
في الختام:
لا مكان للحياد بين الوطن والخيانة.
ولا مساواة بين الجندي الذي يحمي الأرض، والمتمرد الذي يبيعها.
ولا مفاوضات مع القتلة قبل أن يُحاسبوا.
ما يحدث اليوم في السودان ليس “صراع جنرالين”، بل صراع وجود بين وطنٍ يريد الحياة، ومليشيا لا تعرف إلا الموت.
فيا شباب بلدي…
عودوا إلى جذور هذا الوطن، وتاريخ جيشه، ودماء شهدائه، وكرامة نسائه، واصطفوا في خندق الحق، فالتاريخ لا يرحم المتخاذلين.