هناك رجلٌ مسكونٌ بالجنون، يضرب بلا سبب، ويدفع بلا وعي، كأن قوة الكون قد تجسدت فيه. اعتاد الناس وجوده كجزءٍ من مشهدٍ يتكرر يومياً. انطفأت نيران جنونه. عُولج، وعاد إلى الشوارع والأزقة، هادئاً، ساكناً كنسمة عابرة. كلما اقترب من الناس فروا منه، ظن أن الأمر مصادفة عابرة، لكنه سرعان ما أدرك أن ذاكرة الناس لا تنسى. وقف في منتصف الطريق سائلاً: لماذا تفرون مني؟ لقد صرتُ عاقلاً، أليس كذلك؟ فتلقّى من أحد المارة همسة تفيض بحكمة الأجداد: (الله يكفيك شر مجنون داووه). هنا، أدرك أن الجنون ليس مجرد لحظة بل لعنة تمتد، تماماً كما الأوطان، حين تعيد تدوير ذات الوجوه، وتُلبس القديم أقنعةً جديدة، يُخيّل للناس أن الزمن تبدّل، لكن ذاكرة التاريخ لا تغفو، والجراح القديمة لا تبرأ حين يُلبَس الخراب ثوب العافية. فالأمل المزيّف لا يُشفي، بل يُعمّق النزيف. وما أُلبس من الخارج لا يُغيّر ما في الأعماق. الجنون، إذن، ليس خللاً في الفرد وحده، بل مرآةٌ لمجتمعٍ يخشى المواجهة، ويؤثر أن يختبئ خلف وهم الشفاء، بدل أن يُحدّق في شبح ماضيه، ويُعيد تعريف وعيه من الجذر.
لا يرجى الشفاء ممن يصرّ على تكرار نفس العِلّة، فالعلاج لا يكون بإعادة اجترار الوهم، بل بكسر النمط، فهل التغيير صدى لنداء الوعى حين يُضرب في أعماقه، فتتشكل ملامحه تحت مطارق القهر، وتتخمّر في أتون التجربة حتى ينضج وعياً لا رجعة فيه، أم انه قدر يُولد حين تكتمل شروطه، أم أنّ التغيير استجابة فطرية، تتفجّر من أغوار الغريزة حين يشتدّ الظلم ويبلغ مداه، فيثور الإنسان لا لأنه أدرك، بل لأنه ضاق؟ كأنما يركض صوب خلاصٍ بدائي، غريزي، لا يعرف وجهته، سوى أنه يريد أن يفلت من قيده بأي ثمن, أم أنه تحوّلٌ فكري، متأنّ، يتجاوز نشوة الانفعال، ليعيد تشكيل الرؤية لا كردّ فعل أو ومضة غضب، اشتعلت كحريقٍ عابر، ثم انطفأت قبل أن تكتمل شروط اتقادها؟ ثورات اندلعت ولم تنضج، هدمت القديم ولم تقدر على تأسيس الجديد، فظلّت عاجزة عن اجتثاث الجذور.
التغيير لا يكتفي بتحريك السطح، بل يزلزل الوعي، ويعيد تشكيل الواقع لا تجميله، يُطيح بالمفاهيم الراسخة في العقول، ويعيد تعريف السلطة، والمجتمع، والإنسان. لا لإعادة إنتاجٍ القديم بحلّة جديدة، ووجوه مستعارة، وأسماء قديمة بأقنعة مزيّفة (مجنون داووه). ويبقى السؤال، مُعلّقاً في وجدان كل جيل: هل كانت شعارات التغيير مشروعاً لبناء إنسانٍ جديد، أكثر عدلاً وكرامةً وحرية، أم أنها لم تكن سوى أصداء حماسةٍ عابرة، يتكرّر صداها مع كل جيل، ثم يخفت صوتها في دهاليز المصالح، وتُختَزَل في تبريرات معلّبة، يسهل نسيانها؟ الفارق، يكمن في عمق الوعي الذي يحمله، وفي البصيرة التي تحفظه من أن يكون فصلاً آخر، يُكتَب بالحبر نفسه، وإن اختلفت الأسماء.
في اللحظات الفاصلة من عمر الوطن، حين تتعقد خيوط المصير وتضطرب البوصلة في يد الدولة، لا تكمن المعضلة في انتظار من يأتي بعد الانهيار ليجمع ما تناثر من الحطام، فذاك وإن بدا نبيلاً، لا يُعيد عجلة التاريخ، بل يُجمّل وجه الخراب. لسنا بحاجة إلى من يخرج من بين الأنقاض حاملاً رماد الخسارة على كتفيه، بل نحتاج من يبصر المأساة قبل أن تولد، من يرى في الأفق البعيد نذر العاصفة وهي لا تزال هاجساً ساكناً في صدور الأيام. ذاك الذي لا يُخدعه الصمت، بل يقرأ في العيون الخافتة ملامح الخطر، وفي الطرقات المهجورة صدى الانهيار القادم. لا ينتظر اشتعال النيران ليأتي بالماء، بل يطارد الشرارة قبل أن تغادر المهد، ويمسك بزمام الريح قبل أن تستحيل إعصاراً. ليس من يركض خلف ركام الغدر، بل من يحرس بقايا الوطن، من أمنٍ وطمأنينة، من لُحمةٍ وشعور جمعي، قبل أن تذروها ريح الفوضى. لا من يقف على الأطلال نادباً، بل من يحرث أرض السلام قبل أن تجف الينابيع وتذبل الحياة. نريد من يضمد الجراح قبل أن تتقيّح، ويحمي الحلم قبل أن يُذبح، ويُداوي الفقد لا بعد وقوعه، بل قبل أن يُولد من رحم الإهمال والتردد.
فالتغيير إعلان داخلي بأن للإنسان قدرة على إعادة بناء ذاته من الداخل، حين يوقن أن كل محنة تُخفي في جوفها درساً، وكل ظلمة تمتحن البصيرة لا البصر. ويعلم أن توسيع دوائر الإيجابية لا يغيّر واقعنا فحسب، بل يعيد تشكيل وعينا به. وتبرأ النفس لا لأن النكبة زالت، بل لأنها ارتقت فوقها، بكرامة الفهم، لا بمرارة المنكسر. ما من أحدٍ يولد وفي قلبه جريمة. المجرم ليس سلالة، بل انعكاس لبيئة صدأت فيها الرحمة، وتربية تآكلها الإهمال، ومجتمع أغفل صوت الطفولة حين كان الأوان يسمح بالإنقاذ. أولئك الذين نراهم خلف القضبان اليوم، كانوا يوماً أطفالاً يطرقون أبواب العاطفة بأيدٍ مرتجفة، فلم يُفتح لهم أحد. ليست كل الجراح، في جوهرها، ثمرة شرّ مقصود بل كثيرٌ منها ليس سوى صدى لنداءٍ لم يُلبَّ، وأنينٌ لوجعٍ لم يُفهم، وجرحٌ تُرك في عزلته ينزف ببطء، حتى صار نزيفه شهادةً على ظلمٍ لم يُسمَّه باسمه. فبعض الآلام لا تولد من القسوة، بل من الغياب. من الصمت حين كان ينبغي الكلام، ومن الخذلان حين كان الأمل في حضنٍ لا يبتعد.
في كل أمة، ثمة لحظة حرجة لا تُقاس بالزمن، بل تُقاس بمدى ضيق الأفق واتساع الشعور بالغبن. ثمة ساعة لا تُعلنها عقارب الوقت، بل يكشفها وجعٌ مكتوم في صدور الناس، حين يشعرون أن الأرض تضيق، وأن الوطن لم يَعُد يعترف بهم. في مثل هذه اللحظات، لا نحتاج إلى من يُردّد الكلام، بل إلى من يُبصر ما لا يُقال: أن من حُرم من دفء الانتماء، قد ينزوي، ثم يعود فجأةً لا طيفاً وديعاً، بل فريسةً في قبضة الطامعين، أو سهماً مشحوناً بالغضب في خاصرة الوطن. كم من الذين أُقصوا بالأمس، عادوا لا ليشيّدوا، بل ليهدموا. لأن الدولة التي لا تُنصف أبناءها، إنما تغرس فيهم بذوراً الانتقام. قد يخفت صداها حيناً، لكنها لا تموت. وحين تُقصي المؤسسات أهل الكفاءة وتُقدّم دونهم مَن لا مؤهل له سوى الولاء، فإنها لا تبني المستقبل، بل تحفر هوة في قلبه، وتُهيّئ لكارثة تؤجلها المجاملة. الدولة التي ننشدها ليست خيالًا تداعبه النخبة في معازلها، ولا قميصاً مستعاراً من تجارب الآخرين يُلبَس على جسدٍ لا يشبهه. نريد دولة تُقام على دعائم الإنصاف، لا الإقصاء، وعلى الكفاءة، لا المحاباة، وعلى انتماءٍ يتّسع للجميع، لا هويةٍ ضيقة تُقصي وتُفرّق. وطنٌ يعترف بأبنائه قبل أن يُطالبهم بالولاء، ويفتح ذراعيه لكل من حمل فيه حلماً، لا سيفاً.
abudafair@hotmail.com